كيف يمكن أن نفسر لمواطن سافر من قريته إلى الخارج مدة عامين مثلاً، وحين عاد لم يعد قادراً على أن يتعرف إلى جغرافية منطقته، لأنها شوهت وتحولت بسرعة فائقة إلى بيئة ليست لها علاقة بما كانت عليه.
ربما كان المبرر الوحيد هو عدم قدرتنا على التعبير عن التشويه الذي يحصل في الجغرافيا الفلسطينية، لأن سياسة الأمر الواقع الاحتلالية وقوة الاستيطان وسرطانه تحدد اليوم شكل هذه الجغرافيا.
أعاد الخميس الماضي للفلسطينيين ذكرى سوداوية، فهو اليوم الذي أعلنت فيه دولة الاحتلال الاستقلال باستيلائها على معظم أراضي فلسطين التاريخية.
في هذا اليوم، كان المشهد الجغرافي لمعظم مناطق الضفة الغربية كئيباً، ولكن غير واضح لأولئك الذين يتقاتلون على بقايا فتات متعفن، أو أولئك الذين لا يخرجون من مواقعهم في القلاع الاسمنتية في المدن وخاصة وسط الضفة.
الجغرافيا الفلسطينية كانت مستباحة يوم الخميس. كان المسافر من رام الله إلى نابلس عبر طريق النبي صالح، بيت ريما دير بلوط كفر الديك ـ سلفيت، وحتى مفترق زعترة باتجاه نابلس أو حتى باتجاه قلقيلية يشاهد كمّ التشويه الجغرافي للأرض الفلسطينية بفعل الاستيطان وقوة التهويد المتسارعة لهذه المناطق.
سلفيت محافظة.. صحيح أن عدد سكانها مع قراها ليس كبيراً، ولكن ما زلنا نذكر مواقف الرئيس الشهيد أبو عمار الذي كان يتحسس خطورة الوضع في منطقتي سلفيت والأغوار، لأنهما خاصرتان ضعيفتان ولذلك تم تحويلهما إلى محافظتين.
في سلفيت اليوم القرى الفلسطينية مجرد معازل صغيرة ضائعة بشكل كامل بين تجمع استيطاني ممتد من الساحل وحتى نهاية المرتفعات الجبلية.
الاحتلال أعاد صياغة خارطة المنطقة، فشق طرقاً ربما هي أوسع من الطرق التي شقها داخل الخط الأخضر، مسارب متعددة، إشارات مرورية وضوئية، أشجار مزروعة على جنبات الطرق، لافتات بالعبرية وبعض الأحيان بالإنجليزية تدل على حجم الاستيطان.
كفلسطيني أنت مضطر إلى أن تسأل من تراه من المواطنين عن مفترقات الطرق، حتى لا تضيع في هذا البحر الاستيطاني. كانت هناك لافتة تشير إلى سلفيت، تدخل شارعاً من عدة مسارب لتجد نفسك في تجمع «أرئيل»، لوحات السيارات الصفراء كأنها تقول إنك لم تعد في منطقة فلسطينية (مجازاً) وإنما أنت داخل الخط الأخضر، نتيجة المبالغ الضخمة التي أعادت تشويه الجغرافيا الفلسطينية.
تقرر العودة لأنك بسيارتك التي تحمل لوحة فلسطينية تشعر وكأنك غريب أو ربما مشتبه به، خاصة في ظل يوم أعلنت فيه قوات الاحتلال حالة تأهب قصوى على مفترقات الضفة.
أعلام الاحتلال تسيطر بشكل كامل على المكان. المستوطنون في المفترقات والمرتفعات وعيون المياه والسهول. فيما لم تشاهد أي تجمع فلسطيني حقيقي في مواجهة هذا الاحتلال الجغرافي.
في مفترق ما يسمى تجمع أرئيل، على جنبات الطريق التي زينت بأشجار تحمل أزهاراً بنفسجية، لم تشاهد مثلها في مدننا الفلسطينية، كانت هناك عدة بسطات لمواطنين من المنطقة يبيعون الفخار وأشجار الزينة والحجارة الملونة وغيرها للمستوطنين.
هذا الموقف ذكرني بأديبنا الكبير الراحل إميل حبيبي في ملحمة «المتشائل»، عندما قال إنه بعد أسابيع من الاحتلال الإسرائيلي للقدس في العام 1967 كان البعض يبيع الفخار على مداخل المدينة وأبوابها للمحتلين.
هو المشهد السوداوي نفسه الذي نشاهده كل يوم في قرية تقع شمال شرقي القدس والتي أقيمت المستوطنات على أكثر من 80% من أراضيها. ولكن هناك من يبيع أيضاً الفخار والحجارة والتراب والزهور وأشجار الزينة لأولئك المستوطنين الذين استعمروا أرضهم!
أنت تشعر وكأنك في حالة إرباك وضياع. ضياع من حجم الجغرافيا المشوهة من جهة، وضياع لأن من يتحدث عن حل الدولتين يعيش وهماً كبيراً، لأنه لا يوجد ما تقوم عليه الدولة الثانية، إلاّ إذا كان المقصود هو الجغرافيا الفلسطينية المشوهة بالبناء الخرساني الذي أغرق كثيراً منا في دوامة القروض، التي أنهكتنا بحيث لم نعد قادرين على رؤية الجغرافيا المشوهة لأرضنا.
[email protected]
أضف تعليق