إذا كان صحيحاً المثل القائل: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم»، فإن ما خرجت به القمة التاسعة والعشرون في الظهران، يعكس إلى حد كبير العزم العربي في هذه المرحلة، بل أنها تتجاوز إيجابياً هذا العزم. عند الحديث عن العزم العربي علينا أن نقرأ المشهد بكل تفاصيله المرعبة والمؤلمة والتي تطرح أمام القمة جملة من الملفات المعقدة والصعبة، والأصعب أن يتفق الزعماء العرب عليها جميعاً.
هي كما قال الدكتور صائب عريقات قمة فلسطين بامتياز، ذلك أن الملف الفلسطيني يكاد الوحيد الذي يحظى بإجماع العرب فيما التناقضات السياسية، تجعل إمكانية تحقيق إجماع على الملفات الأخرى، صعباً. قدر من الحظ يلعب لصالح الفلسطينيين، ذلك أن قضيتهم هي العنوان ربما الوحيد، الذي يقرر نجاح أو فشل القمة، طالما يصعب التوصل إلى سياسات ومواقف جماعية حول بقية الملفات.
الفلسطينيون حصلوا على قرارات تلبي كل ما اقترحه الرئيس محمود عباس سواء فيما يتعلق بالقدس، أو بالحقوق المستندة إلى قرارات الأمم المتحدة، أو فيما يتعلق بمبادرة السلام العربية.
يمكن للبعض أن ينتقد القمة من منظور عدمي متطرف، لا يرى في قراراتها، ما يوجب التقدير طالما لم ترتفع بسقف مواقفها وقراراتها إلى الحد الأقصى الذي يستجيب للحقوق التاريخية كاملة، لكن مثل هذه الرؤية تفتقر إلى الموضوعية، وتشكل هروباً إلى الأمام لا يفيد السياسة الفلسطينية بشيء.
وإن كان ثمة من يتبنى هذا المستوى من النقد، فإن عليه قبلاً أن يتبصر واقع الفلسطينيين، إن كان يؤهلهم للارتفاع بسقف سياساتهم ومطالباتهم. الفلسطينيون لا يقومون بواجباتهم تجاه أنفسهم وقضيتهم سواء فيما يتعلق بالتوافق السياسي أو بالتوافق والتوحد المؤسساتي وهم حتى يومنا هذا، غير قادرين على أن يقرروا استراتيجيتهم الموحدة، حتى يطالبوا الآخرين بما يعجزون عن تحقيقه، هذا فضلاً عن أن السياسة الفلسطينية الرسمية لا تزال تتمسك بالرؤية التي عكستها القمة في قراراتها.
لا شك أن مكان القمة عكس نفسه على طبيعة مخرجاتها، بما في ذلك ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والتحديات التي تواجهها في هذه المرحلة. البداية كانت من الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي أجاب في خطابه على عديد التساؤلات، التي تداولتها وسائل الإعلام والسياسة خلال المرحلة التي سبقت القمة، وكان محورها بالدرجة الأساسية، ما صدر من وعن ولي العهد محمد بن سلمان.
وسائل الإعلام والسياسة تداولت تسريبات عن أن المملكة العربية السعودية، طالبت الرئيس محمود عباس، الاعتراف بأبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية بدلاً من القدس، وكشكل من أشكال التجاوب مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وتداولت وسائل السياسة والإعلام إشارات كثيرة على رغبة السعودية في تطبيع علاقاتها بإسرائيل من دون ربط ذلك بالحقوق الفلسطينية. لست هنا لأنفي أو أؤكد مثل هذه التسريبات التي قد يستند بعضها إلى وقائع، أو تخمينات أو تحليلات، أو إسقاط مواقف، ولكن ربما أراد الملك سلمان أن ينفي في خطابه كل هذه التسريبات، وأن يعود لتأكيد الموقف التاريخي لبلاده.
الملك سلمان استنكر القرار الأميركي بشأن القدس، وأكد أنها عاصمة الدولة الفلسطينية، وهو الذي أطلق على القمة، قمة القدس لتأكيد ما ورد في خطابه، وهو الذي شدد على الحقوق الفلسطينية، انطلاقاً من رؤية الدولتين، وهو الذي أعاد تمسك بلاده بمبادرة السلام العربية. ولتأكيد مصداقية هذه المواقف أعلن عن التبرع لصالح صندوق أوقاف القدس بمئة وخمسين مليون دولار، وخمسين أخرى لدعم الاحتياجات الطارئة لـ «الأونروا»، ثم لرفع قيمة المساهمة السعودية في صندوق السلطة من 7,5 مليون دولار إلى عشرين مليونا.
ولكن هل كان الموقف العربي الجماعي أفضل حتى حين لم تكن الأمة العربية تعاني مما تعانيه اليوم؟ السؤال الأهم هو: هل تظل سمة القرارات الجماعية العربية، حبيسة المواقف النظرية حيث عرف عن العرب الفصل بين الأقوال والأفعال؟
والسؤال الآخر، هو هل ستلزم قرارات القمة العربية بشأن القضية الفلسطينية، الدول المنفردة على الالتزام بما انتهت إليه القمة؟ أم أن كلاً منها سيعود، ليمارس سياسات خاصة به فتصبح قراراتهم لذر الرماد في العيون، وفقط من أجل أن يتجنبوا الفشل؟
وكما أن الملك سلمان بن عبد العزيز هو الذي حدد هذه الرؤية في خطابه، وهو الذي سيظل رئيساً للقمة إلى أن تنعقد في العام القادم، فإن ذلك يلزم السعودية قبل غيرها بأن تعمل على الالتزام بقراراتها، وأن تلعب دور المحرك لتنفيذ هذه القرارات.
لتنفيذ هذه القرارات يلزم أولاً، أن تنشط السياسة الفلسطينية بأقصى طاقتها، لكي تشكل بدورها الدينامو الذي يحرك آلة الجامعة العربية، بما أنها آلة كسولة يعتريها الصدأ.
ولكن ومرة أخرى، فإن الاستناد إلى هذا الموقف العربي الجماعي يحتاج إلى قاعدة فلسطينية صلبة، حتى لا يكون الانقسام مبرراً لتهرب بعض الدول العربية من التزاماتها السياسية أو العملية، فهل يدل سلوك الفلسطينيين على أنهم قد امتلكوا إرادة تحرير أنفسهم من قيود حسابات الانقسام، أم أنهم لا يزالوا يوفرون الأسباب والذرائع لاستمرار هذا الواقع الذي يخدم صفقة القرن؟
[email protected]
أضف تعليق