في شقة صغيرة وعلى بعد آلاف الكيلومترات من هنا، أدمنت لمدة أسبوع على مشاهدة معظم حلقات المسلسل الأمريكي "بريكينچ باد"! ويُعتبر هذا المسلسل من أروع المسلسلات الدرامية، إن لم يكن الأروع والأكثر مشاهدة في العالم، مما أدخله موسوعة غينيس للأرقام القياسية، ناهيك عن الجوائز العديدة التي حصدها. وانا لست من متابعي المسلسلات التلفزيونية، فدرامتيكية أبحاثي العلمية تكفيني! لكن كون للكيمياء دور أساسي في احداثه جعلني أرغب بشدة في متابعته. فوالتر الذي يلعب الدور الرئيسي هو مدرّس للكيمياء أصيب بمرض سرطان الرئة، الأمر الذي حثه على استغلال مهاراته الكيميائيه لتحضير المنشط الميثامفيتامين (الميث) بجودة عالية وبيعه، مدفوعًا بحرصه على تأمين الناحية المادية لعائلته قبل موته!
في "بريكينج باد" تأخذك الأحداث الشائقة الممزوجة بالجريمة، العلاقات العائلية الشائكة، القرارات الخاطئة ونتائجها، إلى حالات نفسية رهيبة بحيث لا يتوقف ضخ الدوبامين لزيادة رغبتك في مشاهدة المزيد والترقّب! ضف إلى ذلك إبداع المخرج بإدخال التفاعلات الكيميائية المختلفة إلى المشهد، وذكره بإسهاب ودقة متناهية أسماء المركبات الكيميائية المرجوة لتحضير المنشط! فتبقى ككيميائي مشدودًا لمراقبة الجانب العلمي في مدى دقته وكأنك بمختبرك تختبر طالبًا في أدائه! ولا يمكن أن تَفوتك العبر العديدة التي يمكن استخلاصها. ولعلّ أجملها وأقواها كان ما قاله المؤلف نفسه ،فينس غيليغان، بأن "للأعمال عواقبها" وهي من المقولات التي أقدسها! والبعض ركز على معضلة الشر ،المتجسدة بشخصية والتر والإرادة الحرة التي يمكن أن تأخذك إلى مسالك لا تحمد عواقبها!
ولا حاجة لأن أسهب ببُؤس مصير من يقترب من المخدرات كمنتج، تاجر أو مستعمل مهما كانت دوافعه . فوالتر كانت دوافعه، والتي تظهر صادقةً في البداية، توفير الأمان لعائلته قبل موته لدرجة تعاطفك معه! لكن سرعان ما نرى كيف لجحيم المخدرات أن يلتهم الأخضر واليابس.
ورغم كل ذلك إلا أن أبحاثًا عديدة تظهر أن لبعض المخدرات جوانب إيجابيه لدى بعض المرضى. أبرزهم الاستعمال المتزايد للماريجوانا الطبية، المتمثلة بأوراق وأزهار نبتة القنب الهندي، والتي تحتوي على مادة فعالة تعرف برباعي هيدرو كانابينول (THC). وكان الكيميائي رفال مشولم من الجامعة العبرية أول من استخلص وحدد المبنى الجزيئي لهذه الماده عام ١٩٦٤. وتعتبر الماريجونا من أفضل مسكنات الآلام، وتُستعمل كمضاد للقيء ومنشط للشهية فتعطى (او المواد المستخرجة منها) بتوصية طبية لمرضى السرطان والإيدز الذين يُعالجون بأدوية كيميائية. كذلك يوصى بها لحالات نفسية معينة التي تحصل نتيجة صدمات صعبة ولحالات الصرع. وفي إسرائيل توجد اليوم مزارع قانونية لزرعها من أجل الاستعمالات الطبية المذكورة وفي الأبحاث المتعلقة باحتمالات فعاليتها ضد أنواع من السرطان وأمراض أخرى.
وكما في المسلسل "بريكينچ باد" الذي لا يخلو للحظة من المفاجآت، التناقضات والدراماتيكية في الأحداث كذلك الأمر مع الماريجوانا—يختلط فيها الحابل بالنابل. فما تفعله من تأثير نفسي على المستعملين الكُثر في العالم كانت ستجعل أبا النواس-لو عرفها- يتغنى بها ويغير في قصيدته "دع عنك لومي" كلمة صفراء إلى... "خضراء" لا تنزل الأحزان ساحتها...لو مسّها حجر مسّته سرّاء. ويقال إن عشتروت إلهة الحب والخصب عند الفينيقيين والكنعانيين أقامت طقوسها ورائحة الماريجوانا تملأ المكان. ولا يُخفى علينا عشق جيش نابليون لها أثناء احتلاله لمصر في القرن ال ١٨ الذي نقلها بدوره إلى القارة الأوروبية. وهي تشغل السياسيين على أشكالهم بسن قوانين جديدة في أنحاء العالم لكسر حواجز عديده لاستعمالاتها الطبية (والترفيهية!) بطرق قانونية. وربما يفاجئك أن أبحاثًا جديدة تدل على أن تأثيرها على النساء مُختلف عنه عند الرجال. وفي نيويورك مثلا هناك ترخيص لطبيب العائلة لتوسيطها للنساء اللواتي يعانين من أعراض شديدة بفترة الحيض. التطورات الاخيرة تشير إلى أن وضعية الماريجوانا تمر في حالة تغيير جذري في الجانب الطبي بحيث تُبقي العديد من العلماء مُدمنين في التفكير على حل ألغازها الكثيرة.
**شكرًا لصديقي ا.ص. على إلهامي لكتابة هذه المقالة وأدعو الله أن يحقق له أمنياته.
تحياتي،
بروفيسور أشرف إبريق
عالم وباحث في مجال الكيماء
معهد التخنيون- حيفا
[email protected]
أضف تعليق