في حمأة إعلان ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وجملة الإجراءات العدائية تجاه الشعب والسلطة الفلسطينية، غاب عن بعض المراقبين الفلسطينيين خاصة، بأن الولايات المتحدة في عهد ترامب، دخلت نفقا يؤدي بها إلى عزلة دولية مؤكدة، وأن الرجل الذي يبدو أنه تجاه إسرائيل، ملكي أكثر من الملك نفسه، قد وضع بيضه، وعن غباء سياسي كبير، في السلة الإسرائيلية، حيث تعتبر إسرائيل واحدة من أكثر الدول المكروهة في العالم بأسره وليس في الشرق الأوسط، وبالتالي فإن الولايات المتحدة، وهي تقترب جدا من إسرائيل، أنما تبتعد عن العالم كله، وهذا أمر ضار جدا بمكانة دولة انتصرت في الحرب الباردة، وتعتبر الدولة التي تقود النظام العالمي ما بعد الحرب الباردة.
على الصعيد الداخلي، وبعد مرور أكثر من عام واحد بقليل، على دخوله البيت الأبيض، أجرى دونالد ترامب جملة من التعديلات والتغييرات على أركان إدارته وعلى من ساعده في الوصول للبيت الأبيض، حتى وصل الأمر إلى وزير الخارجية الذي يعتبر الرجل الأول أو الثاني في الإدارة، بسبب تعدي صهر الرئيس جاريد كوشنير على صلاحيات "الخارجية"، وحتى اللحظة الأخيرة كان ريكس تيلرسون يبدو العاقل الوحيد في تلك الإدارة، والذي مع خروجه يكون طاقم الإدارة قد اقتصر على جوقة من المراهقين السياسيين، أو المغامرين، الذين يقامرون بمكانة الولايات المتحدة كدولة أولى تقود النظام العالمي.
ولم تكد قصة التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح الرجل الذي كان واضحا وهو مرشح أنه سيكون واجهة منفرة وقبيحة لصورة أميركا في العالم، وهذا يعزز مكانة روسيا كنافس لها في السياسة الدولية، أن تهدأ، حتى تفجرت فضائح الرجل، مع ممثلات الإباحية، بما يظهره كرجل كاريكاتوري، غير لائق للجلوس على مقعد الرئاسة الأميركية.
أما على الصعيد الخارجي، فحدث ولا حرج، لقد سارع الرجل وبمجرد قبضه على مقاليد الحكم، إلى فتح الملف الكوري من الباب الضيق، أي باب التوتر، وقد فتح بابا يمكن وصفه بسباق التسلح، بما يذكر بما أقدم عليه أخطر رئيس جمهوري أميركي في نهاية الحرب الباردة، ونقصد به رونالد ريغان، حين بدأ منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي بإطلاق حرب النجوم مع الاتحاد السوفياتي السابق.
ثم ورغم أن أهم إنجاز كانت قد حققته الإدارة الديمقراطية السابقة في عهد باراك أوباما، هو التوصل لاتفاق مع إيران عبر مجموعة 5+1 حول ملفها النووي، سارع الرجل إلى فتحه من جديد، بما يفتح عليه ليس أبواب جهنم في الشرق الأوسط، بل أبواب الشقاق مع الدول العظمى، التي شاركت في صنع الاتفاق مع إيران، حيث فعلا بدأت كل من ألمانيا وفرنسا، بمحاولة إغلاق هذا الباب قبل أن يجر ترامب المغامر الجميع لمواجهة غير محسوبة العواقب.
ورغم أن ترامب اتبع سياسة مختلفة عن سلفه أوباما فيما يخص الملفات المفتوحة عسكريا في الشرق الأوسط، خاصة في كل من اليمن وسورية، إلا أنه لم يظهر قدرة على تعزيز النفوذ، بل وحتى الوجود الميداني، لا في سورية ولا حتى في العراق، لأنه واصل الانحياز إلى حلفاء بعينهم، فالي جانب إسرائيل، ما زالت الولايات المتحدة تنحاز للأكراد فقط في ملفي العراق وسورية، وحتى حليفها الاستراتيجي، نقصد به تركيا، ها هو يبتعد عن إطارها السياسي في أكثر من ملف، وفي أحسن الأحوال يمكن القول إن تركيا الآن على مسافة واحدة بين كل من روسيا وأميركا.
أما حلفاء أميركا من العرب، فقد أظهر ترامب الوجه الجلف والمظهر الانتهازي والوضيع لعلاقته بهم، فهو يعرب باستمرار عن أن تحالفه معهم، مبني فقط على ما يحصل عليه من أموال، فبعد أن تفاخر أمام المجتمع الأميركي بعد زيارته الأولى الخارجية وكانت للسعودية بحصوله على أكثر من أربعمائة مليار دولار كاستثمارات في بلاده، ها هو يستقبل الأمير محمد بن سلمان بالقول إن السعودية دولة ثرية، يمكنها أن تساعد بلاده من خلال شراء الأسلحة والاستثمار فيها!
ثم بدأ بفتح أبواب حرب التجارة العالمية، مع الصين وغيرها، حيث أعلن بالفعل عن فرض الرسوم الجمركية على الواردات الصينية والتي وصلت إلى ما نسبته 25% من واردات الصلب وعلى 10% من ورادات الألمنيوم، الأمر الذي دفع بنائب رئيس مجلس الدولة وكبير مستشاري الرئيس الصيني الاقتصاديين للقول لوزير الخزانة الأميركي إن الصين لديها من القوة ما يكفي للدفاع عن مصالحها التجارية، فيما كان وزير التجارة الصيني يشير إلى أن الصين لا تريد بدء حرب تجارية، لكن في حال وقوعها فإن الصين تستطيع حماية مصالحها.
لا شك أن شن ترامب للحرب التجارية على الصين، سيضعف موقفه تجاه بيونغ يانغ، وهكذا فإن شنه للحروب السياسية والاقتصادية في أكثر من مكان وتجاه أكثر من بلد في العالم، يجعل منه "بطلا دونكيشوتيا" يحارب طواحين الهواء، وشيئا فشيئا، يأخذ ترامب بلاده إلى مكان معزول، والى مكانة أقل تأثيرا في العالم، لأن كل تلك الدول، من كوريا إلى إيران، مرورا بروسيا والصين وتركيا وحتى أوروبا، ولا ننسى بعض الدول في أميركا اللاتينية، وحتى المكسيك وربما كندا، ستضطر إلى فتح خطوط علاقات أوثق فيما بينها، ومن يدري ربما لا يطول الوقت حتى تبدأ التحالفات السياسية والاقتصادية تظهر في أكثر من مكان، لمواجهة سياسة الغطرسة والهيمنة الأميركية الجديدة، التي يبدو أنها لم تستوعب ما استجد على عالم ما بعد الحرب الباردة من ثقافة سياسية مختلفة، أقل ما يقال فيها، إن القوة العسكرية لم تعد هي القوة الوحيدة، ولا حتى الرئيسية في تحقيق النفوذ، وما دام بيت ترامب من زجاج فإنه يغامر جدا حين يرشق بيوت الآخرين بالحجارة.
المصدر: الايام
[email protected]
أضف تعليق