حتى لو افترضنا جدلا، بأنه جاء يوم قريب أو بعيد، وتوصلت فيه إسرائيل بهذا الشكل أو ذاك لحل مع الشعب الفلسطيني، يضع حدا للصراع التاريخي بينهما، والذي كان ولا يزال أحد أهم أسباب توتر علاقة إسرائيل مع كل محيطها العربي والإسلامي، فإن قبول إسرائيل في المنطقة لا يبدو أنه سيكون مضمونا أو تلقائيا، وذلك لسبب جوهري له علاقة بإسرائيل نفسها من حيث كونها "دولة" لديها طموحات بلا حدود، ومسكونة بثقافة عنصرية، تسوّل لها بأنها فوق الجميع، وأهم من كل جيرانها، وأنه يحق لها ما لا يحق لغيرها، خاصة وأن ظروف نشأتها وإقامتها، ومن ثم رعاية بقائها من قبل الغرب الاستعماري طوال العقود الماضية، هيأ الأرضية المناسبة لتوغل هذا الوعي السياسي الفوقي، لدى الإسرائيليين من نخبة الحكم إلى عامة الشعب.
لم تحتل ولم تقهر إسرائيل الفلسطينيين وحسب لأنهم كانوا شعبا ضعيفا، أو أنه لم يقاوم استعمارهم أو احتلالهم، ولا لأن فلسطين فقط تحتل مكانة جغرافية وروحية مهمة جدا، ولا لأن الظرف التاريخي، لحظة محاولة بريطانيا وفرنسا إعادة توزيع المستعمرات فيما بينهما ما بين حربين كونيتين، قد ساهم في "خلق إسرائيل" من العدم السياسي، بل إن إسرائيل وهي الدولة التي دمها تشرّب روح العداء للآخرين، وتشرّب نزعة القهر والتفوق، لا تفرق بين فلسطيني وسوري أو مصري، أو لبناني، حين احتلت أراضي كل هؤلاء، ولم تفرق يوما طائرات القتل الإسرائيلية ولا جنودها المتوحشون بين أطفال فلسطينيين في قبية أو دير ياسين، وبين أطفال مصريين في بحر البقر، أو أطفال لبنانيين في قانا، ولإسرائيل أطماع أو طموحات لا حدود فلسطين التاريخية لها، بل تتجاوزها بكثير، وهي حين أعلنت قرار ضم الجولان، في 14 كانون الأول العام 1981 أي بعد أقل من ستة شهور من قرارها ضم القدس في 30 تموز 1980، فقد نظرت إلى الجولان كما نظرت إلى القدس، وهذا يسقط كل ادعاءاتها التاريخية أو الدينية بالمدينة المقدسة.
إسرائيل أعلنت كدولة العام 1948 دون القدس، ودون الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان، وكانت تظهر نفاقا واحتيالا بإعلان رغبتها في السلام مقابل الاعتراف، وبعد العام 1967 بدأت تفصح عن نيتها بابتلاع الأرض المحتلة تحت دعاوى واهية باستخدام التاريخ والدين، ولو طويت هذه الصفحة، حيث أن كفاح الشعب الفلسطيني منذ العام 1967 حتى الآن، قد عرقل المشروع الصهيوني بدولة إسرائيل الكبرى، من الفرات إلى النيل، حيث إن احتلالها بعد ذلك في العام 1982 ومحاولتها الاحتفاظ بالأرض اللبنانية حتى نهر الليطاني قد فشلت بسبب المقاومة اللبنانية، لأفصحت عن نوايا باحتلال كل الأرض ما بين نهري النيل والفرات.
نقول كل هذا لأن دولة إسرائيل ما زالت حتى اللحظة أي بعد سبعين عاما من إعلانها في أيار 1948 بلا دستور وبلا حدود جغرافية محددة، وهي إذا كانت ترفض ترسيم الحدود بينها وبين فلسطين ــــ بما يعطل التوصل لاتفاق السلام بينهما ـــــ فإن حدودها مع لبنان وسورية، إنما هي حدود هدنة، كذلك حرصت بعد اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن، على أن تكون سيناء خاضعة لاتفاق طابا الأمني، الذي يفرق بين حدود السيادة وحدود الأمن.
وما زالت إسرائيل على نزاع مع لبنان حول مزارع شبعا، ومع سورية حول الجولان، وهو نزاع بشكل رسمي، لكنها اليوم تسير بشكل حثيث وثابت، بل ومتسارع إلى نزاعات مع كل الإقليم ولكن حول حدود السيادة على المياه الإقليمية، ويصل النزاع بين إسرائيل من جهة، وكل من مصر، تركيا، قبرص، لبنان، وحتى سورية، من جهة ثانية، وبالتأكيد مع فلسطين، وذلك بعد اكتشاف حقول الغاز الضخمة في شواطئ شرق البحر الأبيض المتوسط.
تطمع إسرائيل التي تدرك بأن الطاقة البديلة عن النفط، التي تحتل مكانته في الأهمية حاليا وفي المستقبل هي الغاز، في أن تضع يدها على حصة الأسد من غاز شرق المتوسط، ولا تكتفي بحقوله المكتشفة مقابل شواطئها، لذا فقد بدأ النزاع بينها وبين تركيا، خاصة وأن لتركيا يدا في قبرص التركية، فاستغلت إسرائيل النزاع التاريخي بين تركيا من جهة واليونان وقبرص اليونانية من جهة لعقد اتفاق يطلق يدها في المياه الإقليمية بينها وبين قبرص، ومن ثم حاولت أن تسطو على حصة لبنان، حيث سبق لها وان عرقلت توجه لبنان للأمم المتحدة، لتثبيت حقه في التنقيب عن الغاز في مياهه الإقليمية، لكن إسرائيل لم تقبل، وحاولت أن تكرر تجربتها مع السلطة الفلسطينية، أي بإجراء مفاوضات خارج المنظمة الدولية وعبر الرعاية الأميركية المنحازة.
لكن سرعان ما نشأت أزمة دبلوماسية بين لبنان والولايات المتحدة، بعد استقبال وزير الخارجية الأميركية، لمحاولة دفع لبنان وإسرائيل التوصل لحل، يضمن سطوا لإسرائيل على غاز لبنان، فيما عرف بـ"بلوك 9"، لكن توحد اللبنانيين بكل طوائفهم السياسية قوى من موقفه تجاه إسرائيل، عزز موقف لبنان، فيما يرجح المراقبون أن يتواصل النزاع، ليس فقط بين إسرائيل ولبنان، ولكن بين إسرائيل وكل جيرانها من جهة ثانية.
قد لا نبالغ كثيرا حين نقول، إن طريق إسرائيل العدواني، للسطو على الطاقة الغازية في شرق المتوسط، قد بدأت منذ نحو عشرين عاما، أي منذ العام 2000، حين اكتشف حقل مارين غزة على بعد 30 كيلومترا من شاطئها، والذي حدد سياستها بقطع الطريق على حل مع الجانب الفلسطيني يؤدي إلى دولة مستقلة، يكون لها الحق لاحقا في استثمار ثرواتها الطبيعية.
ولا شك أيضا بأن سورية ستدخل بعد أن تتعافى كدولة، على خط النزاع مع إسرائيل، فيما لا احد يعلم متى ستبدأ تباشير النزاع مع مصر، رغم بعد حقل الغاز المصري عن مياه إسرائيل الإقليمية كونه يقع جنوب المتوسط، وليس شرقه، لتواجه إسرائيل جبهة من دول الجوار، في حرب الحدود المائية، في نزاع مفتوح على حقول الغاز.
[email protected]
أضف تعليق