في ظل ما يمكن وصفه بالصخب والعنف السياسي الذي يملأ الشرق الأوسط وحتى أكثر من مكان بالعالم، يبدو الصوت السياسي الفلسطيني الهادئ، صوتاً غير مسموع، بحكم ما يمتاز به من عقلانية واعتدال، وأن يكون غير مسموع لا يعني أبداً أنه غير مؤثر أو غير فعال، فعادة تكون الأصوات العالية مسموعة، لكنها تكون مؤقتة وعابرة، أما صوت العقل، الخارج بعد تفكير وتروّ، فإن نتائجه تظهر بعد وقت.
لم يتطير الفلسطينيون رغم الظلم الواضح الواقع عليهم، والذي لم يقتصر على حكومة اليمين الإسرائيلي، بل تعداها إلى البيت الأبيض، منذ أعلن دونالد ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ولم يظهر الفلسطينيون أي قدر من جنون رد الفعل، وبقوا محافظين على رباطة جأشهم. لم يقوموا بإطلاق النار ولا بإحراق الأخضر واليابس، بل حتى أنهم لم يظهروا الحنق المراهق تجاه إدارة أميركية منحازة جداً وظالمة، لكنهم أعلنوا موقفاً سياسياً واضحاً وصريحاً وثابتاً، وعبّروا بشكل شجاع، عن تمسكهم بحقوقهم الوطنية، لذا من أبدى الحنق كان الجانب الأميركي الذي تسابقت أبواقه في المس بشخص الرئيس الفلسطيني، وبتوجيه التهديدات ذات اليمين وذات الشمال.
أعلنت القيادة الفلسطينية كرد وبشكل منطقي على الإعلان الأميركي أن الإدارة الأميركية فقدت أهليتها كراع للعملية السياسية، وهذا أمر منطقي جداً، إذ كيف يمكن لوسيط أن يخرج عن القانون الدولي الذي يعتبر القدس الشرقية مدينة محتلة، والمستوطنات المقامة على الأرض الفلسطينية المحتلة ليست عقبة في طريق الحل الذي يرعاه، أو أنها شرعية، بل ويخرجها من دائرة التفاوض؟!
وكانت ترجمة هذا الموقف، قطعاً لظن آثم للبيت الأبيض بأن القيادة الفلسطينية تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر، هو عدم استقبال مايك بنس نائب ترامب في بيت لحم، فيجن جنون واشنطن، وتعتبر ذلك إهانة لترامب!
لم تكتف الإدارة الأميركية بإعلانها المشؤوم، بل وقامت بالضغط على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين لتمسح المخيمات الفلسطينية من الوجود وتغلق الطريق على حق العودة، حتى لأرض دولة فلسطين، أي للضفة الغربية والقدس، كما كانت تقول قبل التوصل للحل الإدارات الأميركية السابقة، وقطعت الاتصال بالسلطة الفلسطينية وم.ت.ف بإغلاق مكتبها التمثيلي بواشنطن، كذلك اندفعت الحكومة الإسرائيلية بجملة إجراءات استيطانية على الأرض وجملة توغلات وملاحقات في الضفة الغربية، وقامت وما زالت تقوم بقتل عشرات المتظاهرين، رغم أنهم لا يستخدمون أي شكل من أشكال العنف ولا حتى السكاكين.
ولم يقتصر صخب الإدارة الأميركية السياسي ولا عنف الحكومة الإسرائيلية الميداني العدواني على القدس والضفة الغربية المحتلتين بل وصل إلى قطاع غزة، حيث تواصل إسرائيل عمليات القصف المدفعي والجوي فيسقط الضحايا من المواطنين الآمنين.
في المقابل فإن القيادة الفلسطينية لا تلجأ إلى أي شكل من أشكال العنف، ولا حتى الصخب السياسي الذي ينطوي على أي تهديد، بل تذهب للمجتمع الدولي، تثير فيه حمية العدالة وروح الدفاع عن السلام وحماية القانون الدولي من إجراءات القهر والسطو التي تسم قاطع طريق سياسي، والتي تتسم بها الحكومة الإسرائيلية مع إدارة أميركية تشد على يدها الاحتلالية.
ولأن السياسة لا تعرف الفراغ فإن القيادة الفلسطينية جابت أنحاء الأرض بحثاً عن مراكز تجد فيها من يدافع عن القانون الدولي، الذي حين يغيب عن فلسطين فإنه يغيب عن العالم بأسره، فذهب الرئيس محمود عباس لبروكسل وباريس وموسكو، مروراً بأديس أبابا، يبحث عن راع بديل للعملية السياسية، التي ما زال يقول الجانب الفلسطيني: إنه لا يتراجع عنها كطريق للحل، ولكن وفق المنطق الدولي، وليس وفق إدارة أميركية تراجعت حتى عن ثوابت الإدارات الأميركية السابقة.
في الحقيقة، إن مثل هذا الموقف، واجهته القيادة الفلسطينية سابقاً، ولكن مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وحيث إنه معروف أن ما توقعه الحكومات باسم الدول التي تمثلها، لا يجوز التراجع عنه وفق المنطق الدولي، وحيث إن اتفاقات أوسلو بين م.ت.ف والحكومة الإسرائيلية اليسارية عام 1993، كانت تمثل إسرائيل فإن حكومات اليمين التي تلت حكومة إسحق رابين_شمعون بيريس تراجعت عنها، أولاً بالروح ثم بالنص، وهذا أمر غير مقبول، والآن تفعل إدارة ترامب تجاه مواقف الإدارات الأميركية السابقة، ما سبق وفعلته حكومات اليمين الإسرائيلي تجاه سلفها حكومة اليسار.
صحيح أن الفعل على الأرض بحكم أنه ظاهر للعيان يبدو أكثر وضوحاً، لكن ما يمكن قوله: إن إسرائيل ومنذ خمسين عاماً هي دولة تحتل أرض فلسطين، لذا فهي تقوم بما يحلو لها من إجراءات، لكن في السابق لم تكن من الزاوية القانونية والسياسية أرض الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، أرض دولة فلسطينية محتلة، لذا فإن الاعتراف الدولي بدولة فلسطين على حدود 1967، أمر في غاية الأهمية، فكم من قرارات احتلال ذهبت أدراج الرياح، ومنها اعتبار فرنسا الجزائر أرضاً فرنسية، وهكذا فإن خطاب الرئيس في مجلس الأمن يعتبر فعلاً سياسياً بامتياز لأنه سيحاول أن يقطع الطريق على صفقة القرن، والذي سيعقبه تحرك من أجل الحصول على عضوية كاملة لدولة فلسطين في المنظمة الدولية، حتى تكون المقاومة الدبلوماسية الفلسطينية أكثر فاعلية وتأثيراً وقوة، وبذلك فإنه في هذه الحالة، تذهب كل إجراءات إسرائيل الاحتلالية ومعها إعلان ترامب وكل محاولات الإدارة الأميركية المعادية أدراج الرياح، طال الزمان أو قصر.
المصدر: الايام
[email protected]
أضف تعليق