أويَموت زغلول الدامور؟! أويستطيع الموت أن يأخذ إلى مغارته المظلمة هذا الشاعر العظيم وما تركه من صوت أخّاذ يرفرف على أغصان الزجل، وأشعار مغروسة كالأرز في جبال لبنان؟! أوتستطيع الأرض أن تواري شاعرًا تقلّده البلابل وتتشبّه به الشحارير وتردّد الحياة قصائده أبد الدّهر؟! هكذا يولد الإنسان العظيم من رَحِم أمّه فتكون حياته رَحِمًا أخرى للحياة، فلا يقدر الموت أن يحمل إلى القبر غير ذلك الجسد الذي يعود إلى التراب. ولكنّ للقلب أحكامه حين أشعر بوجع صارخ يتغلغل في أعماق القلب لفراق صخرة تحمل على كتفيها تراث الزجل اللبنانيّ، وشاعر فريد قلّما يجود الزمان بمثله لما امتلكه من صوت ساحر وموهبة شعريّة حقيقيّة.
لا أذكر طفولتي في قريتي كفرسميع من الجليل الأعلى من غير أن أتذكّر زغلول الدامور. كان رفيق صباي وخدين حداثتي. كنت أستمع بشغف كبير إلى صوته الصدّاح، وأقف على محاوراته الزجليّة باستمتاع عظيم أتبيّن فيها الردّ المُحكَم والتخلّص الرائع والبديهة المدهشة. صوت كجغرافيّة لبنان، يسمو بك إلى التلال والجبال، ويتحدّر إلى السفوح ويسير في الحقول والأودية. هكذا كنت أرى صوته بعينيّ حينما كان يَرفعه، ويُطوِّله، ويُرنِّمه، حينما كان يَصعد بالأوف عاليًا عاليًا إلى أن يحطّ بها رويدًا رويدًا بمقدرة مثيرة ولافتة.
لقد امتاز هذا الشاعر إلى جانب الصوت الآسر بأسلوب شعريّ يخلو من التكلّف والتصنّع كان يثيرني دائمًا. الواقعيّة المعبّرة والعفويّة الإبداعيّة وسرعة الخاطر والومضات العاطفيّة الخلّاقة التي تدخل إلى القلب دون استئذان. هكذا كنت أردّد معه قوله:
"تَغَنَّى يَا شِعِرْ فِيِّي تْغَنَّى / أنا البلبلْ سِمِعْ صوتي تَغَنَّى
وقَمَرْ نِيسانْ كانِ اصْفَرْ خَدُّو / لو ما بْنُورْ أشعاري تْحَنَّى"،
وهكذا كنت أنشد بعض أبيات العتابا التي قالها:
"خِذِيني بْعَطْفِكُ وْلُطْفِكْ وِعَدْلِكْ
لَحَتَّى انْ غِبِتْ اِرْجَعْلِكْ وَعِدْلِكْ
حَلَفْتِلِّكْ بِجِي وْقلبي وَعَدْلِكْ
وَعِدْ زَغلول مش مَوْعِدِ غْرابْ!
التقيتُهُ قبل سنوات طويلة في عمّان، في حفلة زجليّة أحياها هناك، مع أخي الدّكتور عروة ناصر. لقد غمرني هذا اللقاء بسعادة كبيرة، إذ دار بيننا حديث مثير جدًّا عن شعره وحياته. سألته: "كيف رحت على حفلة بيت مري بعد ما تْوفى أخوك بخمس ساعات"، فأجاب: "دفنت الحزن ورحت! لو تشوف كيف وصلت على المنبر! وصلنا على الحفلة ووقفنا بعيد كتير عن المحل. رفعوني الشباب على ايديهن وهيك من إيد لإيد وصلت على المنبر".
سألته عن صحّته فأجاب: "ختيرنا!". قلت: "اللي مثلك ما بختير! مش إنت اللي قلت "شَابِ العُمُرْ لكِنْ مَا شَابُوا قْلُوبِنا!". شعرتُ في تلك اللّحظة بأنّني قد نبشتُ ذاكرته حينما أوردتُ على مسمعه ردّة قد قالها منذ زمن طويل فنسيها، كبحّار قديم قد حملته السفينة من ساحل إلى ساحل فنسي ما تركه في الأمواج من جواهر نفيسة. بدأ حينئذ يرنّم بصوت خافت تلك الردّة، شَابِ العُمُرْ... كأنّ الزمن قد أعاده إلى ومضة برق قد لمعتْ قبل زمن سحيق في أعماق وجدانه!
شاب عمر الزغلول ولكن سيرته فتيّة ناضرة لا تشيب ولا تشيخ ولا تموت. هكذا يودّعه الناس في كنيسة مار يوحنّا في قضاء المتن ويحملونه على الأيادي إلى مثواه ثمّ يعودون من المقبرة فيجدون في لبنان كله ما تركه هذا الشاعر الخلّاق من موروث شعريّ نفيس باق إلى الأبد.
[email protected]
أضف تعليق