توقفت في القسم الأول من هذا المقال عند ادعاء البعض أن عبد الناصر خسر كل الحروب التي خاضها خلال حكمه، وبينت أن ذلك لم يكن صحيحا وأن عبد الناصر سجل الانتصارات العسكرية والسياسية في حياته على عكس ما يروج الحاقدون والمضللون. وفي القسم الثاني سأتوقف عند ادعاءات البعض أيضا أن عبد الناصر رغم كل ايجابياته ووطنيته إلاّ أنه كان ديكتاتورا، أي أنهم يلغون كل انجازاته الداخلية والعربية ولا يذكرون – اما حقدا أو تضليلا أو ترفا – سوى أنه كان "ديكتاتور"! فهل هذا الكلام صحيح، وكيف يمكن الحكم على عبد الناصر أنه كان ديكتاتورا؟

اذا أراد البعض العودة الى المعنى الحرفي للديكتاتورية، وهي مصطلح لاتينيDictatura) ) يدل على أنه شكل من أشكال الحكم المطلق حيث تكون سلطات الحكم محصورة في شخص واحد أو مجموعة معينة، والمصطلح مشتق من الفعل( ديكتاتوس) بمعنى يُملي أو يفرض أو يأمر. نذكر ذاك البعض بأن معنى "الديمقراطية" الحرفي حكم الشعب، فهل حقا يحكم الشعب في الدول التي تسمى ديمقراطية؟ وكلنا يعرف مدى الأخطاء بل والخطايا التي ترتكب باسم الديمقراطية، فهذه الولايات المتحدة الأمريكية والتي اعتبرت من الدول الأكثر ديمقراطية وحامية حقوق الانسان، اين هي من الديمقراطية بممارساتها وحروبها وجرائمها التاريخية؟

لقد وهب الله الزعيم جمال عبد الناصر مواهب خاصة وقدرات مميزة لم تتوفر لدى غيره، لذا برز بين صفوف تنظيم الضباط الأحرار وخاصة أنه كان أحد المؤسسين الأوائل لهذا التنظيم، وأولاه زملاؤه الثقة وسرعان ما بات قائدا أولا في التنظيم، وأخذ زملاؤه يعتمدون عليه في اتخاذ القرارات، وبعد نجاح الثورة واصل أعضاء المجلس الاعتماد على ناصر في اتخاذ القرارات، لذا لجأ الى أسلوب آخر وهو ألا يدلي برأيه الا بعد سماع آراء الأعضاء، حتى يتيح لهم المجال التعبير عن آرائهم بحرية وقبل أن يعرفوا رأيه، فهل هذه ديكتاتورية؟
لقد أوضح عبد الناصر ومنذ بداية الثورة انها ثورة ديمقراطية جاءت من اجل الشعب ولخدمته، وأكد هذا الأمر في اجتماع حاشد في ميدان التحرير، يوم 26 نوفمبر 1953 فقال:
" اني أعلنها صريحة. ان هذه الثورة كان هدفها الاول الديموقراطية لاننا نؤمن بارادة الشعب وقوته. ولكن لن تكون للشعب قوة ولن تكون له ارادة الا اذا أحس بالديموقراطية. اننا، أيها المواطنون ، لم نفكر لحظة واحدة في الديكتاتورية لاننا لم نؤمن بها أبدا فهي تسلب الشعب ارادته وقوته ولن نتمكن من ان نفعل شيئا الا بقوة الشعب وارادته."
هكذا فهم عبد الناصرية الديمقراطية على أنها للشعب وليست لأعداء الشعب، أومسألة للترف واللهو بلعبة الأحزاب، التي عانت منها مصر خلال عهد الملكية ولم تجلب اصلاحات وانجازات للشعب. الديمقراطية التي أرادها الشعب المصري وأيدها ودعمها، ديمقراطية الاصلاحات والعدالة الاجتماعية والتنمية، المتمثلة في الاصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي، في تشييد المصانع وتوفير فرص العمل، في بناء المساكن الشعبية لأبناء الطبقات الفقيرة، بتحقيق حلم مجانية التعليم وفتح المدارس والجامعات أمام أبناء الطبقات المسحوقة، وخير دليل على ذلك ما ساقه عضو مجلس قيادة الثورة خالد محيي الدين في مذكراته حول رفض أبناء بلدته لحديثه حول الديمقراطية وتأييدهم لعبد الناصر وأعماله على الأرض، فهل هذه ديكتاتورية؟
وهناك من يدعي أو يطلق على عبد الناصر صفة " الحاكم المستبد"، ويرد أحد المؤرخين على هذا الادعاء بالقول: " ان كان المقصود بالاستبداد الاستئثار بالسلطة، بمعنى ان تجتمع كل السلطات في يد واحدة، فقد استبد عبد الناصر بالسلطة ابتداء من منتصف يناير 1953 الى منتصف يناير 1956 . أعلن هذا وصاغه نظاماً للحكم وسد به سداً حاسماً كل فرص العودة الى السلطة أو المشاركة فيها في أوجه الليبرالين وأحزابهم. أما إذا كان المقصود هو الاستبداد بالشعب فإن شعب مصر لم يخسر عام 1953 شيئاً كان له من قبل. لم يكن يحكم ولا كان يشارك في الحكم ولم تكن لارادته أثر يذكر في شؤون السلطة والصراع على توليها بين الاحزاب والقصر والمحتلين".
من هنا فان من يحكم على عبد الناصر واستبداده، انما يقيس الأمور بمنظار اليوم وليس بمنظار العصر والظروف التاريخية التي عاش فيها عبد الناصر. وهذا ما أكد د.أحمد زكريا الشلق بقوله " ان من ينتقد عصر عبد الناصر يعيش المسائل بتفاقم المشاكل من بعده". وبالتالي فان هذه النظرة تفقد قيمتها وموضوعيتها. أضف الى ذلك الى أن صحيفة " أخبار الأدب" المصرية فتحت هذا الملف في العدد الخاص بمئوية عبد الناصر الشهر الماضي، بمشاركة نخبة من المؤرخين المصريين وهم: د.عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حلوان ود.أحمد زكريا الشلق، أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس ود.محمد عفيفي، أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة الذين أجمعوا على أن عبد الناصر لم يكن ديكتاتورا.
ولا يسعني في النهاية الا أن أقول ودون تردد اذا كان العيب الوحيد في عبد الناصر ما يعتبره البعض ديكتاتورية.. فيا ليت الدكتاتور يعود، ليجعل التعليم مجانيا لكل الشعب، ليوزع الأرض على الفلاحين المقهورين، ليبني السد العالي الذي نظم تزويد مياه النيل للفلاحين وزود المصريين بالكهرباء، ليبني المساكن الشعبية لأبناء الطبقات المسحوقة، ليفتح دور الثقافة والمسرح والموسيقى والسينما لعامة الشعب وليس للمختارين، ليهتم بالفقراء الذين لا يهتم بهم أحد، ليعيد الكرامة والكبرياء للانسان العربي، ليعمل على حل الخلافات وجمع شمل العرب وتوحيد جهودهم.. ومرحبا بديكتاتور مثل جمال عبد الناصر.
( شفاعمرو/ الجليل)
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]