لا أحسد عضو الكنيست العربي على الأجواء المشحونة التي يضطرّ للعمل وسطها، كان ذلك داخل الكنيست أو خارجها. فالأجواء العنصرية تستدعي أحيانا أن تبصق في وجهها أو التفوّه بكلام ما كنتَ تحلم أن تقوله. فعندما تحوّلك العنصرية إلى موضوعًا لها فلا يهمّ كم أنت من الثقافة أو من النُبل أو المعرفة أو الوطنية ـ في هذه الحالة ستجعلك "ضئيلا" و"قبيحا" لأنها ستجرّك إلى ملعبها المُريح وهو ملعب ضيّق وسخ وكريه لا بطولة فيه.
لقد وصلت الحالة السياسية البرلمانية وسواها إلى نقطة صار لزاما فيها على العربي هنا ـ كان حزبا أو حركة أو فردا ـ أن يحسم خياراته من جديد. فالبقاء في الكنيست يتحوّل، كما اليوم، إلى صورة عبثية ـ ليس بسبب أعضاء الكنيست العرب بل بسبب عنصرية النُخب اليهودية وعسف الحكومة وعدوانيتها. وهي صورة تكرّرت كثيرا في السنوات الأخيرة. وهي ناتجة في الأساس من الصدام بين إرادة الأغلبية اليهودية أن يُرحلونا عن البرلمان ـ تيمّنا بترحيلنا عن هذا الحيز أو مقدّمة له، وبين رغبتنا في الحضور وإثبات الوجود كناس ورواية لناس وصوت ووجوه وعنفوان وتاريخ وحقوق.
هذا الصِدام رأيناه اليوم وأمس وقبلها مرات كثيرة. يُحاول النواب العرب أن يحضروا في مكان يسعى لتغييبهم ليس قبل أن يُهينهم ويذلّهم كما نرى في الكنيست أو الحيز الإعلامي العبري! وهذه حالات تُستفزّ فيها المشاعر وتُشحن إلى أعلى درجة من غليان، والرجل الرجل مَنّا مَن يستطيع الحفاظ على انضباطه وصورته النبيلة!
في إحدى المرات قال لي المرحوم إميل حبيبي، وكان أشغل منصب عضو كنيست لعشرين سنة، أنه يُشفق على أعضاء الكنيست العرب (في التسعينيات) بسبب من قلة أدب ووقاحة زملائهم اليهود والتعامل الرسمي المُهين معهم. وأضاف أنهم حتى "في عزّها وحْماها" لم يتعرّضوا لمثل هذه الوقاحة والصلف.
أقوال الراحل حبيبي تعكس تغيرات عميقة في حالة التواجد العربي في الكنيست. وقد قيلت قبل أن تستفحل الأمور على شكل سياسات واضحة وصريحة قولا وفعلا للتخلّص من العربي المتواجد على مقاعد الكنيست مثل رفع نسبة الحسم، حظر حركات، تعديل قانون أساس الكنيست، وخطاب عنصري تحريضي يومي وتعديلات تشريعية غايتها منع التداول على الحُكم بشراكة عربية.
هذه تغيرات استراتيجية ينبغي التفكير فيها استراتيجيا يعني ليس بأدوات الحزب والحركة المستفيدين من التواجد هناك ولا بمفاهيم المرحلة السابقة حين كانت الغالبية اليهودية في الكنيست تعرف الحياء أو الأصول أو تؤمن بضرورة الحفاظ على مساحة ما من الدمقراطية أمام نفسها وأمام العالم. ولأن لا شيء من هذا بقي، وإذا بقي منه شيء، فهو ضحية كالنائب العربي تماما، يُمكن إهانته وإذلاله وتصويره كفائض غير مرغوب أو "زائدة دودية". فما جدوى البقاء هناك في شروط كهذه ـ سؤال يطنّ بقوة ونابع من مسؤولية وطنية وإنسانية كاملة وواعية!
أمر آخر ينبغي أخذه بالاعتبار هو تلك القُدرة غير المحدودة للنُخب الإسرائيلية على استغلال الحضور العربي في الكنيست لغرض إثبات وجود دمقراطية إسرائيلية. وإلا كيف يكون العرب حاضرين هناك وبمواقف كهذه؟ بمواقف لا يستطيع أي عربي أن يطرحها من على منبر برلماني في دولة عربية أيا كانت؟ بمعنى أن هذا الوجود، صار كما صار، حجّة على النائب العربي نفسه وعلينا من بعده. وهذا ليس خطاب عنصري وإنما الواقع الإسرائيلي المتحوّل بشكل يستعدي العرب كلّيا كانوا "معتدلين" أو "متطرفين" أو "إسلاميين" أو "قوميين" أو "جبهويين" يؤمنون بالشراكة العربية ـ اليهودية. طالما اعتمد العربي خطاب هويته وروايته فهو غير مرغوب فيه. الحالة الوحيدة المقبولة في الكنيست هو غيابه المعنوي والرمزي والفعلي ـ أنظر كيف تعامل زعيم حزب العمل الجديد مع النائب العربي زهير بهلول؟ إنه حضور بغير معنى أو غائب المعنى أو حضور المعنى مشوّها ومعتدى عليه!
فإذا أرادت القيادات العربية هنا استعادة الكرامة والمعنى، وإذا أرادت أن تُمكّن شعبها وتُعفيه من مشاهد الإذلال والإخضاع عليها أن تدرس خيار ترك البرلمان الإسرائيلي. وترك البرلمان لا يعني ترك الساحة ولا الحيز العام ولا النضال ولا تعني التخلّي عن مبدأ النضال العربي ـ اليهودي، بل هي فرصة لتطوير الأدوات النضالية واستعادة زمام المبادرة والفعل السياسي في ملعب مناهض للعنصرية وبديل لها. وعلينا أن نعترف أن الكنيست كبرلمان انحدرت إلى حالة من العدمية بسبب من حضور القوة وغياب السياسة وليس في السياق العربي وحده!
وأرجو ألا يناقشني أحد من زاوية أنه لا يزال عضو الكنيست العربي قادرا على تحصيل فرع بريد لهذه البلدة أو تلك، مثل هذه الأمور تستطيع مبادرة محلية لمجموعة مواطنين أن تقوم بها أو جمعية خدماتية أو حقوقية متخصّصة.
[email protected]
أضف تعليق