عندما أعود إلى الوراء بذاكرتي أتخيل كيف كان الحال اجتماعياً ودينياً وسياسياً في مجتمعنا.
كان الحال اجتماعياً يسود المجتمع نوع من الترابط والاحترام والأريحية بين الناس. تراهم يشاركون بعضهم الأفراح والأتراح بكل إخلاص وصدق. في الفرح مثلا ترى كبار البلد وصغارها يقفون جنبا إلى جنب، في السحجة والدبكة على وقع الناي واليرغول، وترى هذه الصفوف تتناغم مع بعضها البعض مديحاً ورقصاً من الأعماق، ومشاركة صادقة الوفاء. وكأن الفرح للجميع دون استثناء. هكذا كنا نشعر أنها فرحة للجميع.
وكان فرحا بمعنى الفرح أما اليوم، لا يزيد على ذلك عن مجرد إسقاط واجب اليس ذلك بغريب. وفي الترح مثلا في حالة الوفاة أو أي مصاب كنت تجد كل أهل البلد كباراً وصغاراً قد عمهم الحزن والأسى، وخيمت الكآبة على الجميع، وصمتت الأفواهُ عن الكلام وكان أحياناً يمرُ عامٌ بأكمله، دون أن ترا فرحاً أو عرساً، الا بعد أن يستأذن أهل الفرح من أصحاب المصيبة الفاقدين. هكذا كان الأمر اجتماعياً !!!.
أما دينيا، فكان الدين عند هؤلاء الناس على قدر فهمهم له بكل بساطة هذا حلال وذاك حرام، والحلال بيّن والحرام بين، فكانت الروحانية لها مكانتها ووقارها في قلوب الناس، وإيمانهم بالأولياء والصالحين أن لهم مكانة عند الله. فأحبهم الناس لهذه المكانة أعطي مثالا على ذلك. عندما كان يتأخر هطول المطر، ويكاد ذلك الأمر أن يوقع ضرراً بالغاً بالزراعة والمزارعين، كنت ترا كيف يجتمع ختيارية البلد وأمامهم ويقررون قراءة الصمدية، ويأتون بأكياس من الحصى من المحاجر.
والصمدية هي عبارة عن أدعية وقراءة بعض الآيات من القرآن الكريم، فيجلسون حلقات في برندة الجامع، ويعدون عشرات الألوف من الحصيات، ومع كل حصى تسبيحة أو آية، وبعد الانتهاء من ذلك يلقونها في النهر أو البحر، ولن يطول غياب المطر طويلا بل ساعات قليلة فينهمر المطر ويغطي السهول ويملأ الوديان ولقد شاركت بنفسي في مثل هذه الأمور عند صباي مع الختيرية والامام.
فجاءنا جيل جديد يسخر ممن سبقوه واتبع المهرجين ممن يدعون أنهم مشايخ، فقد هذا الجيل أو الأغلب منه كل روحانية وإيمان وصاروا ناقلين لا أكثر. ويذكرني هذا القول بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال ليت إيماني كإيمان العجائز. الذي قال في حقه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ( لو كان نبياً بعدي لكان عمر ) ... إيمانا دون تفيهق ولا تنطع.
أما سياسيا وهذا عنوان مقالي: كنا قديما وأعني قبل عشرات السنين مضت في كل قرية أو عزبة أو مدينة يوجد قليلٌ من المتعلمين والأكاديميين والمثقفين يعدّون على الأصابع. فكانت أمنياتنا جميعاً، أن يزيد هذا العدد، ويصبح في كل بيت أكاديمي ومتعلم ومثقف، لقد أطلق على هذه الفئة تاريخيا بالنخبة في المجتمع لأنها كانت أمل المجتمعات بان تنقلهم هذه النخبة من الرضوخ إلى الشموخ. وتقودهم إلى بر الأمان والسلامة، هكذا كان الاعتقاد فمع الأيام تحققت هذه الأمنية، حصل ذلك، فوصل في بعض قرانا عددهم بالمئات من الأكاديميين والمثقفين، بل أقول مبالغاً وصل العدد في القرى التي أصبحت فيما بعد مدناً. ألافاً منهم.
ولكن خيبة الأمل من هذه النخبة لم تكن متوقعة كانت كبيرة جدا، وفي بعض الأحيان قاتلة. لقد ثبت بالقطع، أن الأغلبية الساحقة منهم وصلوا إلى هذا المقام ليس من اجل خدمة شعبهم أو أنهم يحملون رسالة سامية إنسانية في المقام الأول من اجل ان ينقلوا مجتمعاتهم نقلات نوعية، إلى الأفضل والأحسن لقد تبين ان الأمر ليس كذلك ومن هنا كانت خيبة الأمل القاسية بعد أن ثبت بالقطع أن الأنانية عندهم فاقت أضعاف أضعاف ما عند العامة وان الأنانية عندهم على سلم أولوياتهم، فراحوا يتنافسون من يكون أكثر نفاقا لصاحب القرار، ومن أكثر إخلاصا ورياءً لمشغليه، حتى الوصول إلى حد الخيانة لوطنه وشعبه ودينه!!!.
فتراهم في قراهم ومدنهم أكثر المشاركين في الفتن والفساد. وإذكاء نار الفتنة وحملوا مشعل الفرقة بين الناس وأعادوا بمجتمعاتهم إلى القبلية الجاهلية العمياء (هؤلاء الذين أضلهم الله على علم).
لقد أعمت الألقاب هؤلاء النخبة دكتور برفسور إلى آخره من الألقاب وتاهوا في غياهب الكبر والغرور، ـ ولكن عيون السلطة التي لا تنام، لن تترك هذه النخبة دون أن تستفيد منها فبدأت تتحرى عنهم وتتابعهم وتتعقب خطواتهم لكي تستفيد منهم فعلمت عن كل واحد منهم كل شيء نقاط الضعف والقوة عندهم، فكانوا بمثابة الصيد الثمين !!! فاحتوتهم ليكونوا لها مخبرين وعيونا ولكن بطريقة علمية وأكاديمية، فعرضت على بعضهم منحا بعشرات الألوف من الشواقل، وطلبت من بعضهم، وخاصة ممن يحملون ألقابا عالية كالماجستير والدكتوراه أن يقوموا بإعداد أبحاثا عن المواطنين العرب في الدولة، كيف يفكرون ويعتقدون، ويعيشون بعاداتهم وتقاليدهم ونقاط الضعف فيهم ونقاط القوة، وما يثيرهم أو يغضبهم وكيف طريقة إرضائهم إلى آخره من هذه الأمور.
فيقوم صاحب اللقب المحترم متلهفا لهذا البحثـ عرف القصد منه أم لم يعرف. أمام المال والشهرة كل شيء يهون، ويعد هذا البحث الذي يطلب منه قد يأخذ أشهراً أو أكثر من ذلك لإتمامه فبعدما يقدم هذا البحث لمن يهمه الأمر ويؤتى بعد الانتهاء منه إلى المختبر الذي يسمى (بجفعات حبيبة) الذي بني ليكون المختبر الفاحص لكل حركة وسكنة للعرب في الدولة. وعلى أساس هذه البحوث تدار سياسات الدولة نحو مواطنيها العرب فيشترك في تحليل هذا البحث امن الدولة ومخابراتها وصناع التوجيه السياسي، وحتى الاقتصادي. لتكون البرامج معده لعشرات السنين القادمة وتوضع هنالك الكثير من الحلول... لكل الظروف حربا آم سلما ليكون الدواء جاهزا إذا ظهر الداء.
هكذا يقع النخبة وأصحاب الألقاب في المصيدة التي أعدت لهم بإحكام فتعرض عليهم الوظائف الكبيرة مديراً لمؤسسة أو كلية أو حتى في الجامعات فمنهم من يتستر بمظلة وطنية أو دينية... لتكون له بمثابة الرافعة أمام بني جلدته أو طائفته. ويظهر لهم انه الحريص، على ارتقائهم وتقدمهم، وعليهم أن يفخروا به لأنه منهم، وقد خرج من بين أصلابهم من يرفع رأسهم في محافل العلم والمجتمع ونسي هذا المفكر وصاحب اللقب الكبير أن بحثه وما قدمه خدم به الجهاز أولاً وعلى أساسه بنوا رؤياهم وتطلعاتهم. كيف يعاملوننا لنبقى مدى الحياة تحت السيطرة والمجهر.... ليبقوا هم الصاحين ونحن الغافلين !!! ولكن حتى لا نظلم الكل هنالك قلة أدركت أن ما وراء الأكمة ما وراءها وتنبهت أنها ستكون عبارة عن حقل تجارب. من اجل أن يستفيد من لا يريد لشعبنا خيرا. ولا تقدماً، ولا راحة بال، ويخبئ لنا في درجه خططا كيف يقلعنا من ارض الوطن، ويصعّب علينا الحياة كي نمل ونرحل. ولكن هيهات أن تتكرر مأساة النكبة مرة أخرى، أنهم كل ما لوحوا لنا بالعصا، نولي هاربين لذا عندما كتبت مقالتي هذه محذرا ومنبها أن الأدوات التي استعملت في ضياع الأرض والوطن. كان منها الجهل، واليوم يبدوا أن الجماعة يبحثون عن أدوات أخرى، العلم وحامليه والنخبة. فحذار أيها النخبة الوقوع في مثل تلك المصايد، ليسجل عليكم التاريخ وصمة عار لا تمحى وخزيا وذنبا لا يغتفر.
والله ولي التوفيق
الشيخ عبد الله نمر بدير
• كاتب المقال هو عضو في إتحاد كتاب الكرمل القطري، ناشط إجتماعي وسياسي وإمام سابق
[email protected]
أضف تعليق