صدر للأب رفيق خوري عن منشورات اللقاء العام الماضي، الجزء الثالث من الرباعية التي استكملها مؤخرا تحت عنوان " من أجل حدود مفتوحة بين الزمن والأبدية"، أما الكتاب الثالث فقد حمل عنوان "الآخر... نعمة أم نقمة؟"، ويتناول فيه العلاقة بالآخر بشكل عام (التواصل، الحوار، الهوية...)، والعلاقة في مختلف دوائرها: الحوار المسيحي- المسيحي، والحوار الاسلامي- المسيحي، بالإضافة إلى دوائر أخرى. يقع الكتاب في 575 صفحة، ويتضمّن عشرين مقالا نشرها الكاتب في العشرين سنة الماضية، وجمعها اليوم في كتاب واحد بعد أن أعاد النظر فيها في ضوء التطورات في السنوات الأخيرة.
يتوزّع الكتاب على أربعة أقسام: الأول: مفردات للدخول في عالم الآخر؛ الثاني: ليكونوا واحدا: العلاقات المسيحيّة المسيحيّة؛ الثالث: معًا أمام الله والعالم: العلاقات الإسلامية المسيحيّة؛ الرابع: رؤى وأحلام. يقول الكاتب في المقدمة: "ممّا لا شك فيه أن موضوع العلاقة أصبح ملحّا في عالم اليوم، بقدر ما هو صعب وشائك. فهو إشكاليّة تستفزّنا في كلّ لحظة، على المستوى الشخصيّ والجماعيّ والدينيّ، وبأبعادها المحليّة والإقليميّة والعالميّة، ولا نستطيع أن نقف أمامها لا مبالين. كيف يمكن أن نواصل السير في حياتنا الفرديّة والجماعيّة بدون محاولة إدراك الآليّات التي تتحكّم بها، وبالتالي تتحكّم أيضا بمسار حياتنا ووجودنا الإنسانيّ؟" (ص 14)
ويهدي المؤلف كتابه "الى روح المرحوم الدكتور جريس خوري الأخ، والصديق ورفيق الدرب، رجل الحوار والمودة واللقاء لن ننساك". الذي رحل أثناء اعداد الكتاب للطباعة. ولأن الكتاب يحوي عدة ملفات ومحاور يصعب معالجتها ومراجعتها بمقال واحد، سأقصر حدثي في هذا المقال على محور هام وأساسي في واقعنا برأيي، وهو العلاقات الاسلامية – المسيحية والتي تناولها الكاتب في القسم الثالث من كتابه.
يستهل الأب رفيق هذا المحور بمقال بعنوان " العلاقات الاسلامية المسيحية – مسار شخصي" وهو عبارة عن محاضرة سبق وقدمها في روما عام 2004 وهو ينشرها بالعربية لأول مرة، في مقالته هذه خلاصة تجربة شخصية تنضح بالصراحة والشفافية والصدق التي يخشى كبار الباحثين من الوقوع فيها فيجتنبوها، لكن ثقة الأب بنفسه وبفكره ومعرفته ونقاء سريرته تجعله لا يخشى .. فالكاتب يتعرض للصعوبات والتحديات الكامنة في مواصلة الحوار بأساليبه التقليدية التي أوصلته الى الفشل ولا يتورع عن توجيه النقد الصريح للطرفين " لقد فشل الفكر المسيحي في تقديم آفاق رحبة تتيح للمسيحي أن يأخذ دوره كاملا في بناء مجتمعاته..وفشل الفكر الاسلامي هو أيضا، في طرح منظومة اسلامية مقنعة، تحاكي جوهر الاسلام وتطلعات الانسان المعاصر وآمال مجتمعاتنا العربية" (ص 273). ويدعو أو يأمل بانطلاق فكر مسيحي – اسلامي جديد من تحت الركام، يؤسس لعهد جديد من الحوار العلاقات السليمة المنشودة.
وفي المقال الثاني ينتقل الأب رفيق من الكلام العام والشخصي والأمنيات الى تلمس الواقع على الأرض، ويبدأ من ساحتنا الفلسطينية حيث يتناول "العلاقات الاسلامية المسيحية في فلسطين بين الماضي والحاضر والمستقبل"، ويكشف لنا عن معلومة هامة بأن تلك العلاقات لم تجد لها عمقا الا في ظل الحضارة الاسلامية، حتى أن العلاقات المسيحية الداخلية استفادت من تلك الحقبة. وتوقف الكاتب عند العامل الديني في التفكير والموروث الثقافي كما ظهر في وثيقة اعلان الدولة الفلسطينية عام 1988.
وينتقل الكاتب ليعرض التحديات المستقبلية التي تقف أمام الحوار في ظل تنامي الهوية الدينية على حساب الهوية الوطنية، ومحاولة الغاء المواطن والوجود المسيحي في ظل الطائفية والتكفير. ولا يرى خلاصا الا ببناء مستقبل مشترك يساهم الطرفان ببنائه، ويؤكد أن "مستقبل العلاقات الاسلامية المسيحية في فلسطين رهن بالتفكير والعمل" (ص 300).
ويصعد الأب رفيق مستوى التفكير الى حد الاستفزاز حيث يتعرض بمقالة " الطائفية والمذهبية والتعصب الديني في المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية"، ويقوم بتفكيك العوامل الطائفية في مجتمعنا العربي عامة والفلسطيني خاصة ولا يخجل من الاشارة الى السند الديني للمشاعر والعوامل الطائفية في ظل الجهل والأفكار المسبقة والتطرف. حيث يتوصل الى أن " شيطان النزعة الطائفية على الرغم من كل هذا يسكن فينا" ( ص 309).
ويتوقف خاصة عند ما يتعرض له المسيحيون في البلدان العربية في عصر التكفير والتدمير، تلك الظواهر الجديدة على مجتمعاتنا التي تخالف الميراث الغني في التسامح والعيش المشترك. ولا يحصر كاتبنا نفسه في اطار التنظير والحنين والشعارات بل يطرح السؤال الكبير: ما العمل؟ سعيا منه للبحث عن الحلول التي كغيره لا يملكها انما يشير الى مواضع وأماكن تملك مفتاح الحل، وهي المؤسسات على اختلافها: البيت، المدرسة، المعبد، الاعلام، القانون وما شابه، التي يتوجب عليها أن تضع الخطط والبرامج التي تبني الأجيال على القيم الصالحة، لتشكل رؤية مشتركة " على أن تتحول الى مشروع قومي أو وطني، يدخل في برامج كل المؤسسات العامة والتربوية، فتعمل على ترجمته ترجمة عملية" ( ص 329).
وبعد التفكيك والاستفزاز يأتي الأب رفيق الى "الخطاب الديني والعيش المشترك ودور المؤسسات الدينية"، وفيه يواصل الكاتب جرأته وصراحته في تناول قضايا حساسة يعيشها مجتمعنا الفلسطيني خاصة والعربي عامة. يطرح تساؤلات تهدف للتفكير وتدفع نحو المبادرة والعمل. ويتعرض فيه بالتحليل والتوضيح للخطاب الديني ومعناه ورسالته وحامله، من رجال دين منهم من هو مؤهل لحمله ومنهم من هو غير مؤهل. خطاب يعتمد ويستند للنص الديني، لكن في معظم الأحوال يعمل على تشويهه وتحريفه وفق مصالحه الشخصية والسياسية والعقائدية الأصولية، مقابل الخطاب الموحد وهو ضعيف في واقعنا لأنه يعتمد العقل وليس المشاعر.
يدعو الكاتب الى أنسنة وروحنة الخطاب الديني من خلال احترام انسانية الانسان وتنقية الحسّ الديني من الشوائب (341)، والى وسائل ومنابر مغايرة ورجل دين جديد ومنفتح، وفي النهاية يدعو الأديان الى ايجاد طريق خلاق يعتمد على التراث الديني الغني، من خلال " خطاب استيعابي يجمع شمل البشرية .. في ظلّ عالمية القيم الحضارية والروحية الأصيلة" ( ص 351).
في المقال التالي " من السجال الى الشهادة معا وما بينهما" يواصل الكاتب نهجه الصريح الى حد المفاجأة، حيث يتعرض لواقع السجال والتناحر الذي ساد العلاقات بيبن المسيحيين والمسلمين في شرقنا في عصور غابرة، لكنها تنسحب حتى اليوم في حالات ومشاهد عديدة. لكن الأب رفيق يدعو للانتقال من حال السجال الى الشهادة معا، وهذا طريق صعب كما يقر ويعترف لكنه متاح كما يقول، وهو يمر في عدة مراحل مهمة منها: الحوار- العيش االمشترك- التضامن الروحي- الشهادة معا.
وللذين يتساءلون عن جدوى الحوار طالما يتم في قاعات مغلقة ومؤتمرات محدودة العدد، يقول الأب رفيق ان الحوار هو "ثقافة، موقف، روحية وقيمة انسانية أساسية" قبل أن يكون مشروعا مجتمعيا (ص 365). لذا يجب عدم الاستهانة بالحوار رغم محدوديته في غالب الأحيان لأنه يفتح الأبواب أمام الحلول الأخرى. حيث يقودنا للعيش المشترك الأبعد من التعايش، بحيث يوصلنا لهوية مشتركة وتضامن روحي وبعدها لذروة بهائها في الشهادة معا " التي لا تعني أن نشكل جبهة "ضد"، بل الشهادة "مع" و "من أجل" (ص 374).
وفي هذه الايام التي نستعرض فيها كتاب الأب رفيق، انفجرت من جديد قضية القدس على اثر اعلان الرئيس الأمريكي ترامب، الاعتراف بالمدينة المقدسة كعاصمة لاسرائيل، وتنبه الأب رفيق للتوترات التي تهب على القدس بين الفينة والأخرى، والأخيرة احداها وقد جاءت بعد صدور الكتاب، لكن ما قاله الأب رفيق يصح لكل حالات التوتر التي تعصف بالمدينة، حيث ينبه الى أن " القدس يمكن أن تظلّ صرخة في واد، إن لم نحولها إلى مشروع تاريخي" (ص 301)، وهذا ما يجب أن يتنبه اليه الفلسطينيون.
ونجمل مراجعتنا هذه بما قاله القس د. متري الراهب، في مدخل الكتاب " يشكل هذا الكتاب صرخة وجب سماعها، ودعوة وجب التأمل فيها، وفكرا نبويا لا بد منه، كي لا نفقد البوصلة في زمن غزو الصحراء القاتل" (ص11). فهل بقي هنا من يسمع ويتأمل قبل أن ندخل في عصر الصحراء القاتل؟
( شفاعمرو/ الجليل)
[email protected]
أضف تعليق