دعونا نتصور أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قام بالاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، بطريقة مختلفة عما قام به فعلاً، نتصور أن هذا الإعلان جاء كما هو متعارف عليه لدى اعتراف دولة بأُخرى، وبعاصمتها، بقرار من الرئيس يوزع على وسائل الإعلام كخبر، من المؤكد أن مثل هذا الخبر سيحتل العناوين الأولى، لكنه لن يسيطر سيطرة شاملة على وسائل الإعلام حتى قبل الإعلان عنه وبعد ذلك بأسابيع وربما لسنوات، ذلك أننا نرى أن الشكل الاحتفالي ومهرجان الاعتراف الذي تم الإعداد له بعناية فائقة من الناحية الاستعراضية، من حيث الإشارة إليه قبل يومين من موعد الإعلان عنه، ومتابعة ردود الفعل، حتى قبل صدوره من قبل مختلف الدول على صعيد العالم، وكذلك متابعته أثناء وبعد هذا الإعلان الاحتفالي، نرى أن ذلك كان بقصد المزيد من الإثارة والتشويق والابتزاز والاستفزاز، الخبر مهم لكنه تجاوز الأهمية العملية إلى استعراض قد يقلب الطاولة على رأس المستعرض المعلن عن هذه الجريمة.
قبل حوالى عام بالضبط، صدر القرار الدولي من مجلس الأمن رقم 2334 حث على وضع نهاية للاستيطان في الأراضي المحتلة بما فيها القدس بصفتها أراضيَ محتلة وفقاً للقانون الدولي، إدارة أوباما لم تستخدم حق النقض (الفيتو) واكتفت بالامتناع عن التصويت، بما سمح للقرار بالصدور، ما عزز موقفاً أميركياً يشير إلى أن القدس محتلة وأن أي قرار بشأنها يجب أن يتم عَبر مفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، هو موقف معروف وتم تأكيده خلال العقود الأخيرة، وهو الموقف الذي كان وراء تأجيل مستمر من قبل كافة رؤساء أميركا نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، مع ذلك فإن ترامب يدعي أنه أكثر وفاء لتعهداته الانتخابية بينما في واقع الأمر كان الأكثر وفاءً لأنانيته الشخصية، متجاوزاً المصالح الأميركية الحيوية في المنطقة الأكثر أهمية في العالم، الشرق الأوسط، وجوهر القضايا، القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي، ناهيك عن إلغاء دوره كوسيط في ملف التسوية السياسية بين إسرائيل وفلسطين.
من شأن هذا الإعلان، أن يعيد القضية الفلسطينية إلى سابق عهدها باعتبارها القضية المركزية وجوهر الصراعات، كما هي جوهر الحلول والاستقرار في هذه المنطقة من العالم، بعدما تجاوزتها الأحداث في السنوات الأخيرة، عادت القضية الفلسطينية لتحتل صدارة الأحداث من جديد، رغماً عن الصراعات في المنطقة، ورغماً عن ترامب وبسبب إعلانه الأخرق.
من شأن هذا الإعلان، أن يزيد من عزلة أميركا ـ ترامب، على كافة الأصعدة الدولية، ليس من قبل الأعداء والخصوم على المستوى العالمي، بل من قبل الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، كأوروبا وتركيا مثلاً، لم تكن أميركا في مثل هذه العزلة، رغم كل جرائمها وحروبها في العالم، مثلما هي عليه اليوم.
من شأن هذا الإعلان، أن يكشف السياسة الأميركية التي تزعم الحرب على الارهاب، ذلك أن القوى الارهابية والتكفيرية ذات الخلفية والمرجعية الدينية، ستجد في هذا الإعلان مبرراً لاستمرار ارهابها وربما يزيد التعاطف الشعبي على المستوى العربي والإسلامي مع هذه القوى التي أخذت تنزوي وتتراجع في الشهور الأخيرة. إعلان ترامب، يبدو أكثر من أي وقت مضى، خشبة الخلاص لتعزيز مواقعها من جديد بدلاً من الإجهاز عليها.
من شأن هذا الإعلان، وبالتعارض مع سياسة واشنطن المعلنة، أن يعزز دور إيران في المنطقة، أفكار إيران حول «الشيطان الأكبر» ستتعزز لدى الرأي العام الذي سيلتف أكثر من أي وقت مضى حول أطروحاتها وتأييد سياساتها في المنطقة.
من شأن هذا الإعلان، أن يُقوِّض ـ ولو مؤقتاً ـ المساعي الأميركية ـ الإسرائيلية لتحولات عربية تهدف إلى الانتقال من التطبيع الضمني والسري مع دولة الاحتلال إلى تطبيع معلن يمهد الطريق أمام «صفقة القرن» كما يُقال في الأدب السياسي الأميركي الراهن، ذلك أن هذه الدول العربية، لن تجرؤ على ضوء تداعيات هذا الإعلان، والزخم الشعبي الرافض له، على الإقدام على مثل هذه الخطوة.
من شأن هذا الإعلان، أن يزيد من الانقسام في أوساط الكونغرس الأميركي، فقد أجرى معهد بروكغنز إثر الإعلان استطلاعاً للرأي في أوساط الحزبين، الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس، ظهر بنتيجته أن 81% من أعضاء الديمقراطيين، و40% بالمئة من الجمهوريين، ضد هذا الإعلان وتوقيت صدوره.
ومن شأن هذا الإعلان، أن يرتد على أميركا ـ ترامب بعواقب لم يكن الرئيس الأميركي يتصورها!!
[email protected]
أضف تعليق