"كلنا فاسدون ... كلنا فاسدون لا أستثني أحدا ... لا استثني أحدا .. حتى بالصمت العاجز الموافق قليل الحيلة.."
هذه الكلمات مرافعة المحامي (مصطفى خلف) في فيلم ضد الحكومة. أعتقد، برأيي المتواضع، أنها من أكثر المرافعات تعبيرًا أُلقيت في قاعات المحاكم، وإن كانت في عمل سينمائي. تلك الشخصية التي جسدها العبقري أحمد زكي وقام بإخراجها العظيم عاطف الطيب.
في الفترة الأخيرة جلست كثيرًا أتابع عددًا من الأعمال المقربة الى قلبي والتي بدورها كشفت عورات كثيرة من الواقعية الحياتية التي يعايشها الشعب العربي، ومن أهم الأعمال التي تابعتها بشغف، فيلم "ضد الحكومة"، "التخشيبة"، "الغيرة القاتلة"، "الهروب"، "سواق الاتوبيس"، "الحب فوق هضبة الهرم"، "كشف المستور" و "ناجي العلي"، والعديد من الأفلام التي تتطرق لقضايا إنسانية وإجتماعية من الدرجة الأولى، فالأعمال الفنية الصادقة عادة ما تكون السلاح المزعج للأنظمة التي تحاول مرارًا وتكرارًا إخراسها إما بالتهديد بالسجن تارة أو بالقتل تارة أخرى.
يعتبر عاطف الطيب من المخرجين القلائل الذين تناولوا قضايا الطبقة الوسطى في مصر خلال فترة الإنفتاح، التي اتسمت بالمعاناة الإجتماعية من جهة وبمعاناة الناس نتيجة ممارسات الحكومة من جهة أخرى.
بما انني كنت من المشاهدين اللذين يركزون على البطل ويهملون المايسترو الذي يقف وراء أي عمل، قررت مؤخرًا في التركيز على صناع السينما الواقفين خلف الكواليس، وعلى رأسهم المخرجين. وتداركت وأنا أشاهد تلك الأفلام أنها كلها من إخراج عاطف الطيب وما لفت انتباهي من بين كل تلك الأفلام الرائعة كان فيلم "ناجي العلي" تلك الشخصية الفلسطينية المشاغبة والمزعجة للأنظمة العربية كافة، وهي أحد أبرز الشخصيات التي تناولها عاطف الطيب. على الرغم من رأيي في تناول الطيب شخصية ناجي العلي بسطحية في الفيلم، لكن تناول تلك الشخصية بحد ذاته، يحسب له لا عليه، إذ أنها نوع من الجرأة المتهورة في ظل الوضع السياسي العربي عامة والمصري خاصة. فقد كان في تلك الفترة، وما زال، من الصعب تناول شخصية ناجي العلي من خلال أي مخرج مصري أو أي مخرج عربي بموضوعية وشفافية.
إلا أن وجه الشبه ربما بين شخصية عاطف الطيب وناجي العلي، في التمرد على السلطة، ما دفع بالمخرج الى إتمام تصوير الفيلم بالرغم من كل الهجوم الذي طاله من الصحافة المصرية حينها.
"الطيب وناجي" كلاهما ساخط وكلاهما عبر عن سخطه من خلال سلاحه الوحيد الذي يجيد إستخدامه، الفن.
ناجي العلي استخدم قلمه في نقد كل ما هو مشوه في الأنظمة العربية ودفع حياته ثمنًا لنقده غير المباشر أحيانًا والمباشر في معظم الأحيان. كان همه الوحيد الطبقة المقهورة التي انتمى إليها وكان من أبنائها، ورغم كل المحاولات لأسكاته بالمال طورًا وبالتهديد تارة، إلا أنه رفض كل الإغراءات والتهديدات حتى أسلم الروح إلى بارئها بضغطة على زناد الخيانة.
من ناحية أخرى، عبّر عاطف الطيب عن الطبقة الوسطى الذي كان هو أيضًا أحد أبنائها، والتي كانت نتاج أعماله الفنية الرائعة. هي رائعة في زماننا هذا ورائعة بعيون النقاد والشباب المصري الحالي، فلا أحد يجرؤ على أن يقيّم عاطف الطيب بأقل من كونه أحد أهم المخرجين المصريين على الإطلاق، ذلك المخرج الذي عانى الأمرين لتبصر أعماله النور في وقت مضى لأنه هو الوحيد الذي استطاع أن يقحم بها عالم الواقعية ويحقق النجاح بقوة مصداقيتها.
على الرغم من الفروقات الشاسعة بين العظيمين، إلا أن التشابه البارز بينهما هو الإصرار على تقديم ما يؤمنان به بالرغم من كل المضايقات التي طالتهما، فجاء صراخهما فنًا.
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
مقال رائع ومميز وأسلوب جميل