أحببتها مذ عرفتها، أحببت شعرها، وطريقة إلقائها...
أحببت شخصيتها الهادئة والمتمرِّدة في آن، وقبل كل ذلك فتنني عشقها للحرية.
أذكر ولا أنسى زيارتها لبيتنا في نابلس في الستينيات، وحرصها أن تسمع الوالدين الصديقين: "عصام وقاسم عبد الهادي" قصائدها الجديدة.
يطلّ الماضي بجماله وبساطته وعمقه، وأطلّ طفلة في المرحلة الابتدائية، تستمع بشغف وترقب لقصائد الشاعرة؛ لتقلِّد صوتها الشعري الحالم، وتقرأ لها واحدة من قصائدها بصوتها.
لا أنسى تعلقي بقصيدتها المهداة إلى الشاعر الإيطالي: سلفادور كوازيمودو، ذكرى لقاء في ستوكهولم، بعنوان "أي صدفة"، التي مثلت لي صوتاً نسوياً يبوح بالمشاعر الأنثوية الدفينة، ويلتصق بالوطن في آن.
لفتتني جرأة الشاعرة في التعبير عن الحب، في تلك الفترة التاريخية، التي شهدت عملاً دؤوباً للنساء في مجال العمل الاجتماعي الإنساني، المرتبط بشكل غير مباشر بالسياسة.
برز في نابلس في العشرينيات والثلاثينيات أسماء الرائدات: مريم هاشم، وعندليب العمد، ولائقة المصري، وصبحية النابلسي، وازدهار أحمد السروري، وغيرهن ممن شكَّلن الهيئة التأسيسية لجمعية الاتحاد النسائي العربي بنابلس.
وبرز في الأربعينيات أسماء نساء جذبهن عمل الاتحاد الاجتماعي الإنساني؛ لكنهن أضفن له بعداً سياسياً أكثر وضوحاً وبعداً ثقافياً متميزاً. أمثال: فائزة عبد المجيد وعصام عبد الهادي، وهدى عبد الهادي، ويتبيّن التأثير الثقافي والسياسي من نوعية النشاطات التي قام بها الاتحاد بعد العام 1948، التي تتضمن الحفلات التمثيلية، والأمسيات الشعرية، والمشاركة في المؤتمرات السياسية.
لم يكن هناك خيار للشاعرة في المشاركة الاجتماعية أو السياسية، في ذلك الزمن، بعد أن منعت من استكمال تعليمها بسبب وردة فلّ ركض بها إليها صبي صغير في السادسة عشرة، في حارة العقبة، وهي في طريقها إلى بيت خالتها؛ لكنها ورغم الشرنقة الإجبارية، وبواسطة دعم شقيقها الشاعر المحب إبراهيم؛ تعلمت، وحفظت آلاف الأبيات الشعرية، وقرأت في حقول معرفية متعددة؛ فتحت لها أبواب المعرفة والإبداع.
*****
حصَّنت فدوى نفسها بالحب، والموسيقى والشعر. لم ترض يوماً بالظلم، ورفضته لبني البشر كافة؛ فبرزت سماتها كامرأة تسعى بالكلمة للتغيير، وقلب الأمور، وحماية الكوكب كله من شرور وآثام العالم، وعلى رأسها الحروب، بالإضافة إلى حمايته من الفساد والفقر والظلم، حتى تنعم شعوب العالم بالأمان والعدالة. صحيح أنها لم تستطع السيطرة على مجريات حياتها؛ لكنها امتلكت قوة الكلمة، وعصا الحب السحرية:
"لو أني أقدر أن أقلبه هذا الكوكب
لو أني أملك أن أملأه هذا الكوكب/ ببذور الحب
فتعرِّش في كل الدنيا/ أشجار الحب
لو أني أملك بيدي/ أن أرفع عن هذا الكوكب
كابوس الحرب/ لو أجتث شروش الظلم
لكن ما بيدي شيء إلاّ لكن".
هل كانت "لكن" كل ما لديها حقاً؟ كان لدى الشاعرة الكثير؛ شقَّت طريقها الصعبة، ثم الأصعب، في مجتمع لا يعترف سوى بإنجازات الرجال؛ فكنت قدوة لأجيال من فتيات نابلس وفلسطين.
*****
وقفت طفلة حائرة مع فدوى "أمام الباب المغلق"، في محاولة للإجابة عن أسئلة فلسفية شائكة جريئة، وفي القلب منها سؤال الموت، الذي صفع فدوى غير مرَّة. كانت وقفتي الأولى معها، عام 1968، في 28 تشرين الثاني، حين صفعني الموت باستشهاد صديقتي شادية أبو غزالة، وجاءت صفعتي الثانية عام 2006، في 15 آذار، برحيل شقيقي فيصل.
لاحت فدوى ولاح شقيقاها إبراهيم ونمر، وصرخت معها: "يا موت يا غشوم يا غدّار" "يا نمر، لا يا نمر، لا يا نمر"، أواه فيصل!
"يا حبيبنا ويا أميرنا لو أنّه
فراق أعوام حملنا ثقله
لكنه فراقُ عمر/ لكنه فراقُ عمر".
*****
لم تفتعل الشاعرة لكتابة القصيدة السياسية، واكتساب جمهور أوسع. كتبت عمّا تعرف، وأخلصت للثقافة والمعرفة. لن أنسى ذلك اليوم الذي وقفت فيه تحت المطر بعد احتلال عام 67، لأردِّد قصيدتها:
"فلتنزل الأمطار/ تطهِّر الهواء في مدينتي/ وتغسل الجبالَ والسهولَ والهضاب".
ولن أنسى تسمية جوقة اتحاد المرأة الفلسطينية بالقاهرة "عباد الشمس"، بعد تأسيسها عام 1987، تأثراً بقصيدة فدوى طوقان: "الصيرورة"؛ دأبت بعدها ولسنوات عديدة، على إنشاد بعض أبيات القصيدة، حين تقديم "كورال عباد الشمس"، الذي طاف مصر بأغنياته، وزار فلسطين:
"كبروا مع شجر الحناء/ وحين التثموا بالكوفية/ صاروا زهرة عباد الشمس".
*****
التقيتها مرات قليلة خارج فلسطين، بعد إبعادي مع الوالدة خارج الوطن لمدة سبعة وعشرين عاماً.
أذكر لقاء حاراً معها إثر قراءتي قصيدة بعنوان "نشرة أخبار يومية"، في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988، ولقاءات بعدها في عمان، حين طلبت رأيها في نصوصي الشعرية والنثرية "هل يلتئم الشطران"، وكتابة المقدمة قبل نشرها، ولقاء في ندوة "نابلس والانتفاضة" في عمّان عام 1990، حين أطلقت على الوالدة وصفاً اعتززنا به: "سيدة القول والفعل"، وبعدها كان لقاؤنا الشعري الاستثنائي في نابلس عام 1998.
ولا أنسى اللقاءين الأخيرين، عام 2003؛ الأول في تشرين الأول، في مستشفى الرعاية في رام الله، مع زوجي وائل أبو غزالة، وابني تامر، واللقاء الثاني منتصف شهر تشرين الثاني، في بيتها، مع الصديقة الروائية سحر خليفة، في نابلس.
أراد تامر أن يهديها لحنه لقصيدتها: حريتي، الذي أنجزه وسجَّله في القاهرة عام 1998، حين كان عمره اثني عشر عاماً.
*****
لحظة اشتداد المرض على فدوى؛ خلع الموت حذاءه وانتظر على عتبة الباب، وحين نادته فدوى مبتهلة إلى الله أن يرفق بها؛ دخل واصطحبها معه حيث الراحة الأبدية.
سكنت روحكِ فدوى؛ لكن حرفكِ لم يستكِن. كلماتك حانية وجميلة وأنيقة؛ لكنها حادة كالسيف، قادرة على خلق عشرات من المقاومين: رجالاً ونساءً؛ لا على خلق عشرة من رجال المقاومة فقط، كما عبّر موشي ديان.
نستلّ من قصائدك خيوط الحرية بتجلياتها؛ لتشكيل ثقافة بديلة تنويرية تحررية، نشرعها في وجه المحتلِّ ووجه الظلم ووجه التخلف:
"حريتي! حريتي! حريتي! صوتٌ أرددهُ بملء فم الغضبِ/ تحت الرصاص وفي اللهبِ
وأظلُ رغم القيد أعدو خلفها/ وأنا أناضل داعياً حريتي! حريتي! حريتي!"
[email protected]
أضف تعليق