رغم أنه تولى رئاسة وزراء بريطانيا العظمى في ذلك الوقت، منذ العام 1902 إلى العام 1905، إلا أن آرثر جيمس بلفور كان وزيراً للخارجية في حكومة ديفيد لويد جورج، حين قام بوعد اليهودي/الصهيوني ليونيل وولتر دي روتشيلد، عبر رسالة، لا يمكن اعتبارها "رسمية" بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
والوعد لم يكن قراراً من حكومة بريطانيا، كما أنه جاء أقرب لأن يكون التزاماً شخصياً من وزير يمثل الحكومة، على أي حال، كذلك فإنه جاء العام 1917، أي قبل أن يعلن رسمياً انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتداب بريطانيا على فلسطين، لذا فقد جاء "الوعد" أشبه بالمؤامرة، أو التخطيط لما يمكن أن يكون عليه حال أراضي الدولة العثمانية وممتلكاتها، بعد تحقيق النصر عليها، بصفتها عضواً في المحور الذي تزعمته ألمانيا ضد الحلفاء في الحرب.
وكان الوعد أشبه ما يكون بما يقدمه "الأباطرة" من هبات وعطايا، من ممالك أو مقاطعات، ليست لهم، إلا بعد الغزو والسطو، وكان بلفور رجلاً لا يخلو من عقد نفسية، خاصة في ذلك العام، حيث كان يبلغ السبعين من العمر، وكان وزيراً بعد أن كان رئيساً للحكومة من قبل، كما أنه كان وحيداً، لم يتزوج بعد موت الفتاة التي كان أحبها، وكان يهدف من وراء التقرب للصهيونية منذ التقى حاييم وايزمان عام 1906، أن تقنع الحركة الولايات المتحدة دخول الحرب العالمية.
وبالنظر إلى "الوعد" المشؤوم، لا يمكن القول: إن الوعد بحد ذاته، كان كافياً لإقامة "دولة إسرائيل" فكم من وعد سياسي، لم يحقق شيئاً على الأرض، وكم من رئيس للولايات المتحدة، ومنذ عقود وعد بالتوصل للحل السياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفشل، وكم من مرشح رئاسي وعد بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس وفشل، وكم من رئيس دولة وعد بتحقيق الرفاه والعدالة، وما إلي ذلك، وكان حديث القرايا غير حديث السرايا، لكن مع كل ذلك فإن الوعد تحول إلى موقف سياسي رسمي بعد ذلك، حيث رعت دولة الانتداب خلال ثلاثة عقود _أي منذ 9 / 12 / 1917 يوم دخول القوات البريطانية القدس، أو عام 1920، حيث أعلن الانتداب على فلسطين والأردن_ الهجرة اليهودية من جهة، ومن جهة ثانية تسليح وتدريب اليهود وعصاباتهم المسلحة، بغرض "تمكينهم" من فلسطين لاحقاً.
من جهة الوعد، ومن جهة الرعاية السياسية والعسكرية، بتهيئة الظروف، قامت بريطانيا بإنشاء إسرائيل في فلسطين، حين كانت بريطانيا تقود العالم الرأسمالي الغربي، وتقود استعماره لمعظم دول ومناطق الكرة الأرضية، أي أن إقامة إسرائيل من قبل بريطانيا، كان ضمن سياسة وثقافة الاستعمار الغربي، ولا علاقة له برعاية حركات التحرر العالمي أو بالعدالة أو القيم الأخلاقية، لا من قريب أو بعيد، وإلا لكنا شهدنا أمثلة أخرى، وهذا عاكس للمنطق، حيث لا يعقل لدولة هي الدولة الاستعمارية الأولى في العالم أن تساند حركة تحرر مناهضة للاستعمار!
وحيث إنه لا حق تاريخياً ولا اجتماعياً لليهود الغربيين في فلسطين، ولا حق سياسياً لهم بإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين، في ذلك الوقت، ولا حتى حكماً ذاتياً، حيث كان اليهود يشكلون نسبة 4% من السكان، مع أنه من حيث المبدأ أيضاً لا يجوز إقامة دولة طائفية، خاصة الآن، فإن إسرائيل ما كان لها أن تقوم ولا أن تبقى إلا بالرعاية القسرية/الاستعمارية من قبل بريطانيا أولاً، ومن ثم الولايات المتحدة ثانيا، بصفتهما الدولة التي تقود الاستعمار العالمي. بريطانيا حتى الحرب العالمية الثانية وأميركا منذ الحرب الثانية وحتى الآن.
لذا فإن إسرائيل قامت وما زالت كـ"دولة غير طبيعية" ولا بأي حال من الأحوال، لا تنتمي لجغرافيا ولا لثقافة المنطقة، لذا فإنه رغم إزالة بعض من الحواجز السياسية، منذ أربعين عاماً، حيث تم توقيع معاهدة كامب ديفيد، وانتهاء عصر الحروب العسكرية بين تلك الدولة "مسبقة الصنع والتركيب" والدول العربية المجاورة، إلا أن شعباً واحداً لم يقبل بها، لا الشعب المصري ولا الشعب الأردني ولا كل المحيط العربي/الإسلامي، لدرجة أنها لا تجد مجموعة يلعب فيها منتخبها لكرة القدم، سوى المجموعة الأوروبية!
إسرائيل بحكم تركيبتها وثقافتها السياسية المتوجسة والتي تظهر الطموح العارم في السيطرة على كل المنطقة، أي الطموح الذي يظهر كنهها وجوهرها الاستعماري، لا يمكنها أن تغير من طبيعة بذرتها الاستعمارية، ولا حل لها إلا بتفكيك طبيعة الدولة الاستعمارية من إسرائيل، أولاً بوضع حد لاحتلالها لأرض دولة فلسطين حسب قرار التقسيم، وثانياً بنزع طبيعتها كدولة طائفية/عنصرية، تميز بين مواطنيها من العرب واليهود.
كان يمكن لبلفور أن يعد روتشيلد بوطن لليهود في واحدة من الجزر البريطانية، لكن شعبه كان سيثور عليه، وكان يمكن لبريطانيا أن تصدق وعدها للشريف حسين، لكن حقيقة كون هذا الوعد _ وعد بلفور_ استعمارياً هي التي أبقته وجعلته ممكن التنفيذ والتحقق.
[email protected]
أضف تعليق