*انتخابات الكنيست 1992، خلقت حالة استثنائية في ظروف تاريخية انتجتها انتفاضة الحجر الباسلة، ساعدت فيها ظروف دولية ناشئة *موقف الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي وكتلتها البرلمانية بقيادة القائد توفيق زياد، كان موقفا نديّا ومشروطا، لا تلهفا ولا انبطاحا، ويدنا كانت الأعلى *حقائق تشكيل الحكومة وما بعدها تؤكد أصالة الموقف وشموخه*
تصريحات رئيس حزب "العمل" آفي غباي الأخيرة، بأنه لن يجلس في حكومة تشارك فيها "القائمة المشتركة"، أثارت من جديد تجربة "الكتلة المانعة" في العام 1992، التي ضمنت لحزب "العمل" برئاسة يتسحاق رابين تشكيل حكومته.
وقد وقع لغط كثير من عدة جهات، ما ساهم في تشويه الصورة، والحقيقة التي كانت. فقد كان أداء الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي، قائما على قراءة معمقة وتفصيلية للوضع الناشئ في حينه؛ دلّ على مسؤولية عالية، وأصالة وثورية. وكان قائما على خيار اللا مفر من باب المسؤولية التاريخية، بناء على ما كان قائما. ولم يكن في هذا لا انبطحا، ولا استجداء، ولا تلهفا وراء حزب "العمل"؛ الحزب المؤسس للكيان الإسرائيلي، وواضع كل سياساته العنصرية، وحروبه الاحتلالية، وزارع الاستيطان الأول.
ظروف المرحلة
جرت انتخابات 1992، على وقع انجازات تاريخية، غير مسبوقة، لانتفاضة الحجر الفلسطينية الباسلة، التي كان قد مرّ عليها حتى ذلك العام، أربع سنوات ونصف السنة. وجرت الانتخابات أيضا بعد مرور 7 أشهر على انطلاق مؤتمر مدريد للسلام.
إذ نجحت انتفاضة الحجر في اختراق الشارع الإسرائيلي، وباتت قطاعات كبيرة فيه تعي حقيقة أنه لا مفر من حل القضية الفلسطينية، وقطاعات واسعة كانت تؤيد انهاء الاحتلال، بهذا المدى أو ذاك. وكان ذلك تحولا تاريخيا، لدى الجمهور الإسرائيلي الذي لمس العزلة الدولية، وتردي الحالة الاقتصادية.
وهذا الاختراق وصل الى صفوف حزب "العمل"؛ ووصل الاختراق إلى قيادات الصف الثاني في الحزب. وأطاحت الانتخابات الداخلية، برئيس الحزب شمعون بيرس، واستحضرت وزير الحرب السابق يتسحاق رابين، الذي كان أقرب للتوجهات الجديدة الحاصلة، نسبيا طبعا؛ بعد سنوات قليلة من اعلانه حرب تكسير العظام ضد المنتفضين من أبناء شعبنا.
وقد تأثرت التحولات في الشارع الإسرائيلي، وبعض قياداته، بتقلبات عالمية في غاية الأهمية. أولها تفكك منظومة الدول الاشتراكية، بضمنها الاتحاد السوفييتي. وما أدى هذا الى انهيار جدران اقتصادية عالمية، وفتح أبواب عشرات الدول أمام شراهة اقتصاد الدول الامبريالية والرأسمالية الكبرى، ما أدى الى نشوب صراع لتقاسم العالم اقتصاديا.
وهذان العاملان، ساهما في تغيير أولويات عمل أميركية، في ادارة جورج بوش الأب، التي أرادت إزالة "عقبة" القضية الفلسطينية بضغط محدود على إسرائيل (حكومة شمير)، في سباقها أمام الكتلة الأوروبية الغربية من جهة، ودول الشرق الاقصى القوية من جهة أخرى، للتمدد أكثر في العالم، وأوله الشرق الأوسط؛ خاصة بعد نجاح واشنطن في تشكيل تحالف دولي ضم عدد من الدول العربية لشن الحرب على العراق، في مطلع 1991.
ولذا فقد أرادت واشنطن إحداث تحول من خلال مؤتمر دولي للسلام، (مؤتمر مدريد). وحينما أدركت أن حكومة شمير هي العقبة، أرادت الاطاحة بها، فرفضت منحها ضمانات مالية بقيمة 10 مليارات دولار، كانت الخزينة الإسرائيلية في أمسّ الحاجة لها، لتمويل مشاريع استيعاب مئات آلاف المهاجرين الجدد المتدفقين.
انتخابات 1992
الموقف الأميركي من حكومة شمير، لعب دورا وكبيرا، عزز وزاد من التحولات السياسية، وفي ظل كل هذا، جرت انتخابات 1992، وأفرزت فوز حزب العمل بـ 44 مقعدا، وتحالف ميرتس الناشئ حديثا 12 مقعدا، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، بقيادة القائد الراحل توفيق زياد 3 مقاعد، إذ ضمت الكتلة في حينه، الرفيقين هاشم محاميد تمار غوجانسكي. والحزب العربي برئاسة عبد الوهاب دراوشة مقعدين، وهذا هو الجسم المانع غير المتجانس سياسيا، الذي ضم 61 نائبا، من أصل 120 نائبا. والقصد بأنه منع تشكيل حكومة لليكود.
وكان واضحا منذ البداية، موقف الجبهة والحزب الشيوعي، أنه لا يوجد اطلاقا، أي حديث عن أن نكون شركاء كاملين في أي حكومة إسرائيلية، مع كل مسؤولياتها عن الاحتلال والاستيطان، وغيرها من المسببات. لذا كان الموقف هو أن يستثمر حزب "العمل" الوضع الناشئ ليشكل حكومة، مع شبكة أمان خارجية ومشروطة، وبالأساس أن تعرض الحكومة تحولا سياسية تجاه القضية الفلسطينية، ووقف سياسات عنصرية تجاه جماهيرنا العربية.
وأقصى ما نجح رابين وحزب "العمل"، في تحقيقه، هو ضم كتلة "شاس" بزعامة آرييه درعي، التي كان لها 6 مقاعد، بينما اختارت كتلة "يهدوت هتوراة" لليهود الحريديم الأشكناز، ولها 4 مقاعد، البقاء خارج الحكومة، مع تأييد خارجي محدود مشروط. ونذكر أن النهج السياسي لدى الحريديم كان في تلك السنين، مختلفا تماما عما هو اليوم، فقد كتلة "شاس" أيدت اتفاقيات اوسلو، بينما "يهدوت هتوراة المعارضة، غادرت قاعة الهيئة العامة لدى التصويت، لزيادة الفجوة بين المؤيدين والمعارضين، مقابل ميزانيات حصلت عليها تلك الكتلة في حينه.
وقائع الساعة الأخيرة لتشكيل الحكومة
وحقيقة موقف الجبهة والحزب الشيوعي، تأكد في الساعات الأخيرة لتشكيل الحكومة؛ فبعد توقيع الائتلاف بين "العمل" و"شاس"، بات للحكومة قاعدة تأييد من 67 نائبا. وهنا أبلغ الرفيق توفيق زياد، يتسحاق رابين، أن أصوات كتلة الجبهة في هذه الحالة زائدة، ولا حاجة لها، لذا فإن الكتلة ستمتنع عن التصويت على الثقة للحكومة الجديدة.
وحال أن عرف درعي بقرار الجبهة، أعلن أنه ليس على استعداد لأن تتشكل الحكومة بترجيح من أصوات كتلة "شاس" وحدها، ما يعني أن تشكيل الحكومة بات أمام خطر، ما قد يؤدي الى اعادة الانتخابات، أو تشكيل حكومة أخرى مع الليكود، وهذا ما كان يجب منعه. وأحدث الأمر ضجة صاخبة، في وسائل الإعلام في ذلك المساء. وأمام هذا الوضع، كانت كتلة الجبهة أمام خيار اللا مفر، وصوتت الى جانب الحكومة.
ولكن بعد ذلك، لم يكن تصويت كتلة الجبهة فوريا، وكان الكثير من التصويت ضد مشاريع الحكومة، أو امتناع، بحسب الموضوع المطروح والتوازنات القائمة في كل مرّة. بمعنى أن العلاقة كانت نديّة تماما، أمام تلك الحكومة، التي خاضت لاحقا مسار أوسلو، وما رافقه من مفاوضات وعلاقات مع الدول العربية. فبغض النظر عن تقييم كل واحد أو جهة منا، لما حصل في تلك المرحلة، إلا أنه كان انكسارا واضحا للصهيونية ووليدتها إسرائيل.
المحطة الأبرز لعمق موقف الجبهة والحزب الشيوعي، كان في صيف العام 1995، يومها كان قد مرّ قرابة عام على غياب أبو الأمين المأساوي. فقد أقرت الحكومة الشروع ببناء الحي الاستيطاني الضخم على جبل أبو غنيم (الحي الاستيطاني "هار حوما"- حاليا)، جنوب القدس، وشمال بيت لحم. وعلى أساس هذا القرار بادرت كتلة الجبهة الى اقتراح حجب ثقة عن الحكومة. وكانت كتل اليمين على استعداد لدعم الاقتراح لغرض اسقاط الحكومة.
وأذكر جيدا يومها، أنه في الوقت الذي كان فيه يلقي النائب هاشم محاميد خطاب حجب الثقة، كانت النائبة تمار غوجانسكي في الدقائق الأخيرة لمفاوضة الحكومة، حتى حصلت على تعهد بوقف المشروع، وعدم اخراجه الى حيز التنفيذ، فحصل محاميد على الاشارة، بعدم النطق بحجب الثقة. وتجمد المشروع لأكثر من عامين، وتنفذ في حكومة الليكود لاحقا.
موقف تاريخي نموذجي
هذه الوقائع التي أوجزناها هنا، ولم نستعرض الكثير مما حصل خلال تلك الحكومة، يؤكد أن موقفنا في الحزب الشيوعي والجبهة، لم يكن موقف استجداء ولا لهث. كنا وما زلنا نعرف حقيقة الصهيونية ووليدتها، وأحزابها على مختلف تشكيلاتها وتسمياتها. لم نوهم الناس بفرج لن يكون، ولكن نجحنا في تحقيق شيء، كان ممكن أن يكون استمراره مغايرا لما عشناه لاحقا.
إن تزوير التاريخ لغايات حزبية، لن ينفع. وتشويه الصورة، وتحريفها لتبرير نهج ليس منّا، أيا كانت النوايا، هو أيضا لن ينفع ولن يجدي. فنحن من دأبنا لأن تكون أقدام الناس على الأرض ثابتة، وساعدنا لتكون النظرة ثاقبة، حماية من بث الأوهام، أيا كانت مصادرها.
[email protected]
أضف تعليق