لقد أحرز الشعب الفلسطيني هدفاً ضدّ السياسات الصهيونية في القدس، وبالتحديد في ما يخصّ المسجد الأقصى. وقد انتعش الشعب الفلسطيني وانتشى بهذا الإنجاز وشعر بالقوة والتي هي ضرورية ويجب أن تبقى مُلازِمة للنفسية الفلسطينية. لكن الصهاينة لم يكونوا عن هذا الأمر غافلين، وعملوا فوراً على سلب الفرحة من قلوب الناس وإعادتهم إلى حال الإحباط. هذه هي السياسة الصهيونية الثابتة منذ بداية الغزو الصهيوني لفلسطين في بداية القرن العشرين. هم يقولون إن على كيانهم ألا يسمح بانتصار الفلسطينيين كي لا تتطوّر لديهم نفسيّة المُنتصرين، ويجب إحباط أعمالهم باستمرار لكي تبقى نفسيّة المهزومين مستحوذة عليهم. وفي المقابل، تقضي سياساتهم بديمومة انتصار جيشهم وقواهم الأمنية لكي يبقى الصهيوني مُتحلياً بنفسية المُنتصرين. ولهذا قام الصهاينة بعدد من الأعمال انتقاماً منها إدخال أعداد هائلة من المستوطنين برفقة مسؤولين سياسيين وأمنيين إلى باحات المسجد الأقصى في استعراض مُستفزّ جداً ، واتّخاذ قرارات ببناء مستوطنة جديدة وآلاف الوحدات السكنية في المستوطنات القائمة، وهدْم عدد من بيوت الفلسطينيين في عدد من المواقع مثل دير أبو مشعل وسلوان وسلواد.
كان من المتوقّع ألا يكتفي الفلسطينيون بالشعور بالفرحة والانتصار، وإنما كان من المُنتظر أن يبدأوا دراسة تطوير خطط للتمكّن من الوضع في القدس ومواجهة مختلف الخطوات الصهيونية تجاه الأقصى وباحاته. دار حديث في أوساط المرجعية الدينية في القدس حول ما يجب فعله من أجل الذود عن الأقصى وحمايته، وبعض أوساط السلطة الفلسطينية والفصائل طرحت الموضوع لبعض النقاش، لكنه لم يتولّد حتى الآن أي شيء أو خطّة يتم طرحها على جمهور الناس والفصائل. من الصواب أن تستمر المرجعية الدينية بعملها من حيث أنها كسبت ثقة جماهيرية إلى حد كبير، والناس لديهم الاستعداد للتعاون معها. ويبدو أن بعض أعضاء هذه المرجعية يستحسنون الفكرة ولديهم الاستعداد للنقاش، لكن بعضهم يحسب حساباً لردّ فعل الصهاينة وردّ فعل السلطة الفلسطينية التي يمكن أن تعتبر اللجنة الدائمة هيئة تنافس على القيادة. علماً أن الحاج أمين الحسيني كان رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى إبان الانتداب البريطاني واستطاع أن يجمع الشعب الفلسطيني تحت قيادته. وإذا كان من الممكن الاستفادة من تجربة الحاج أمين، والخروج من المآزق السياسية التي سبّبتها السلطة الفلسطينية، فإن في ذلك ما يستحق البحث به بجد. تعدّد القيادات يُسيء وفي تجارب منظمة التحرير ما يؤكّد هذا، ولنا في ضعف ثقة الناس بالسلطة الفلسطينية ما يدعونا إلى التفكير في الوسائل التي تؤدّي إلى إقامة جسم فلسطيني يكسب ثقة الناس وتعاونهم.
لقد صنع الشعب الفلسطيني عند انتهاك حُرُمات الأقصى وباحاته أزمة للكيان الصهيوني، وكان من المتوقّع أن تنتهي الأزمة بحلٍ على حساب الاعتداءات الصهيونية. لكن الشعب الفلسطيني لم يحرّك ساكناً حتى الآن حيال الخطوات العدوانية الصهيونية التي تبعت. فلو توافرت القيادة الوطنية أو الدينية لكان الأمر مختلفاً. لا يستطيع الناس إكمال مشوارهم وتنسيق جهودهم من دون مؤسسية ترعى التنسيق وتستجمع مختلف القوى نحو تحقيق الهدف. حتى الآن لم تتبلور مؤسّسة. هناك من يدّعي أن السلطة هي المؤسّسة، لكن المشكلة أن السلطة مُقيّدة سياسياً وأمنياً برغبات العدو وبالتزاماتها الأمنية تجاه الكيان الصهيوني، وهي لم تستطع أن تثبت حتى الآن أنها مؤسّسة وطنية، ولن تثبت ما دامت مُتمسّكة باتفاقياتها مع الصهاينة. وفي هذا الصدد، يحتاج الشعب الفلسطيني قيادة تُتقن فن صناعة الأزمات لما في ذلك إبقاء القضية الفلسطينية على رأس الاهتمامات العالمية.
تتردّد أقوال في الساحة الفلسطينية حول قلّة الدعم المالي والسياسي للقدس وأهلها. وهنا أذكر أن مؤتمر القمّة العربي أقام يوماً لجنة إسمها لجنة القدس برئاسة ملك المغرب وعضويّة عدد من الأنظمة العربية. كان مدوّياً أن يكون رئيس اللجنة ماسونياً يحمل في قناعته الماسونية أن السلام والمحبة لا يسودان العالم إلى بعد إقامة هيكل سليمان. ولهذا وجدنا أن أعداد المستوطنات في القدس في عهد هذه اللجنة قد تكاثرت، وازدادت أعداد المستوطنين، واشتدّت وتيرة الاعتداءات الصهيونية على تاريخ القدس وحضارتها وملامحها الإسلامية العربية. ارتفعت وتيرة تهويد المدينة وقلب معالمها لتصبح مدينة يهودية. فإذا كان التاريخ قد تطوّر بهذا الاتجاه، فإنه لا معنى لطلب الدعم السياسي والمالي من دول تتهافت على إرضاء الصهاينة والتطبيع معهم. فضلاً عن أن الأموال التي تم تخصيصها للمدينة قد حملت معها انعكاسات سلبية أساءت للمدينة. نحن الشعب الفلسطيني لا نعلم كم من الأموال وصل مدينة القدس فعلاً، ولمن وصلت وكيف تم إنفاقها. الترتيبات المالية تتم عادة تحت الطاولة، والمعرفة بها تتطلّب انقلاباً يضع المسؤولين الفلسطينيين تحت الاستجواب والمُحاكمة. وقد أدّت هذه الأموال إلى نوع من التواكل الفلسطيني والتكاسُل عن تطوير اقتصاد يتناسب مع ظروف شعب واقع تحت الاحتلال. حوّل المال انتباه العديد من الفلسطينيين عن الأمور الوطنية إلى البحث عن نصيب مالي، وانتشر الفساد، وتوسّعت دوائر الاتّهامات والاتّهامات المُضادّة بالسرقة والاختلاس. وقد أثبتت أحداث القدس الأخيرة أن التكافُل الاجتماعي والتضامُن الشعبي أسمى بكثير من البحث عن مال في جيوب الآخرين. لقد تمكّن أهل القدس بتكافلهم وتضامنهم وتوزيع المهام والمسؤوليات بطريقة وطنية أهم بكثير، بل لا مقارنة، من الحصول على المال.
المصدر: الميادين
[email protected]
أضف تعليق