من لا يعرف فخري البشتاوي صاحب أشهر مخبز في عكا؛ فقد فاته رائحة الزيت والزعتر، وفخري بشتاوي الحيفاوي الأصل، العكاوي الذي لم يتخلَ يومًا عن المدينتين العزيزتين على قلبه.
هو اليوم في الثمانين من عمره، لكنه يبدو أصغر، وكأنما للزيت والزيتون، إسهامٌ بالحفاظ على صحته وسلامته.
وُلد في العام 1937، في حيفا، وتعلّق بين حُلمين لا ينتهيان: عكا وحيفا، ولكلٍ منهما مكانة تسكُن القلب سواء كان في حيفا أو في عكا.
يحدثني أبو عدنان، فخري بشتاوي قائلاً: "في العام 1948 جئنا إلى عكا، إذ هربنا ممن القتل والحرب التي كانت تفزعنا ونخافها، كانت ولا تزال دير ياسين مشعلة، وصل أبي ليلاً إلى ميناء عكا، نزلنا إلى الميناء، هناك وجدنا المراكب جاهزة، كنّا نقفز في المراكب، جئنا بالزحافة، آخر الليل، وصلنا إلى عكا، بلد غريبة، كنّا أطفالاً في حيفا، كان لنا بيت وحولنا أهلنا وإخواننا وأعمامنا وأولاد الأعمام".
يضيف: "كنّا في حيِّنا أولاد حارة نستيقظ صباحًا، نفطر على ما قسمه الله (اللبنة والزيتون، نذهب إلى المدرسة وهنا لم تكن مدرسة، مدرسة ولا أصحاب ولا أولاد بلد، كأننا مقطوعين من شجرة، كنّا نخرج من السفينة، وكأنّ أهالي عكا يقفزون بالسفن باتجاه لبنان، عكا فرغت من أهلها تقريبًا، فرغت عكا بمعظمها وكانت غالبيتها لمم، وهو أمرٌ ليس بسيء، عكا كانت عبارة عن مجمّع، بقينا في عكا، أخذونا إلى الدير وكات الراهبات تعتنين بنا، حتى تدبرنا أمرنا، وأتى أبي من حيفا ليعطينا أموالاً، لأنّ والدي لم يكن يعرف أننا هربنا، كان يعمل ليلاً في الفرن، ويريد أن يأخذنا ثم نرجع، وإذ يتم إغلاق الطريق".
هكذا أغلق البحر وتمّ الإحاطة بعكا، فُرض عليها حصار وبقينا هُنا، عبرنا المأساة والنكبة وفي الخمسينات كنّا نسمع عن القضية الفلسطينية، يحدثوننا عن هذه المأساة، كنا في حيفا، تجمع الرجال في الحارة يتحدثون عن المقاومة، مقاومة الشعب الفلسطيني، في البروة والطيرة وفي الشمال، في كل مكان، وكان هناك صدام بين الأهالي والقرى، وجيوش منظمة طبعًا.
وكان اليهود قد حاربوا مع الجيش البريطاني، ومع قيادات عسكرية، وتنظموا وأقاموا جيشًا، وكان الجيش لديه كل وسائل الأسلحة المتطورة، وشعبنا الفلسطيني بعد الـ 36، وتبنّت القيادات العربية فأشعرونا أنّ كل شيء على ما يرام، وأنّ الجيوش العربية ستحارب من أجلنا، وهذا ما حدث، وكانت هناك سبعة دول عربية في الجامعة العربية، وكانت الجامعة العربية تهوِل أكثر وحتى يُعطوا شرعية لليهود، دخل الجيش العربي ليحرر فلسطين، فتركونا نستنشق هواءً نقيًا، ثم نعود إلى فلسطين، لكن من خرج لم يَعُد إلى فلسطين بعدها، وزاد الوعي بعد الجرائم التي اقترفت بحق شعبنا الفلسطيني، وتمسك الباقون في الوطن إذ قرروا أنهم سيموتون في الوطن أفضل من أن يعيشوا مشرّدين.
وفي ليلة ليس فيها ضوء قمر، انسحبت الجيوش، وتسلّم اليهود الوطن، وأقاموا هُدنة، الهدنة كانت عبارة عن مهلة في جزيرة رودوس بوجود بريطانيا وإسرائيل ولم يقبل الاستعمار حتى الرجعية العربية اقامت هدنة بين سوريا ولبنان والأردن ومصر، بينما أبقت على المثلث ضمن دولة فلسطين.
وكانت هناك مأساة كبيرة إذ لم ينجح العرب بلقاء المشردين من وطنهم.
يقول أبو عدنان: "كان والدي يرفض الانتقال إلى عكا، لكنّ أمي أرادت الذهاب إلى لبنان، لكنّ والدي أصرّ أنه باقٍ في الوطن، إذ كان يملك وعيًا سياسيًا عميقًا، وكان متمسكًا بالوطن وبالعودة.
أما علاقتي بالفرن، فكنتُ أمضي معظم وقتي مع والدي وأصدقاؤه من كبار السن، يتحدثون وأنا أسمع.
وعن تأسيس الفرن في عكا يحدثني فخري بشتاوي قائلاً: "الأفران في عكا وجميع المدن القديمة، تونِس، مراكش، وأيام الأتراك، كان كل حيٍ يُبنى فيه فرن، وكان لوالدي صديق فران، قال له الصديق سأنتقل إلى لبنان: "دير بالك على الفرن، وإن عُدت أكمل عملك في الفرن وإن لم أرجع تكملون العمل في الفرن وفعلاً بقينا حتى اليوم في عكا". وأنا منذ طفولتي في حيفا كنت أمضي وقتي مع أبي في صنعة الفران". وكان بيتنا عامرًا قبل نكبة حيفا.
• ما هي علاقتك بحيفا وعكا؟!
عندما أتذكر الأيام لا أستطيع أن أنسى حيفا، كانت بيتي الأول، وفي الخمسينات كان أبي يأتي بـ"الخميرة" من حيفا، في شارع الملوك، كان ابي في حينه مريضًا، وذهبت لأشتري الخميرة مكانه، فقلت سأزور بيتنا، وكان خالي يشتري ملابس جديدة، فرتُ بيتنا، ونزلت إلى شارع الملوك، تناولت الخميرة، ومررت من شارع سويدان، الذي يمر على ساحة باريس، وصلتُ إلى ساحة الحناطير، الشوارع فارغة أجد حيفا القديمة أطلال جميعها مهدومة، وبقيت المساجد والكنائس واقفة، عندها صحوتُ من وجعي، وانهمرت الدموع على وجهنتي، صحوت لأسمعت عن التهجير، لا يريدون عودتنا، رأيت بيتنا مهدّم، ولم أجد أصدقائي ومعارفي في حيفا التحتى، والتي كانت كلها عربية.
[email protected]
أضف تعليق