المعركة التي حدثت فجأة في أكناف بيت المقدس الشهر الماضي, ربما لا تكون قد انتهت, رغم أن المشهد يقول بأن الأمور قد عادت إلى ما كانت عليه قبل الرابع عشر من تموز، أي قبل أن تقدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي على محاولة تهويد الحرم وضمه إليها عمليا وواقعيا حين قامت باستغلال حادثة إطلاق النار على شرطييها الأحتلاليين في باحة الحرم, بأن قامت على الفور بتنفيذ خطة تقضي بإقامة بوابات الكترونية على أبواب الحرم القدسي الشريف يجعل من وجود مفاتيح بواباته بيد حراسه وموظفي الأوقاف الفلسطينية والأردنية أمرا دون أي معنى أو قيمة .
فبعد أيام قليلة من عودة المصلين الفلسطينيين للصلاة في المسجد الأقصى تبين أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قام بسرقة وثائق مهمة خاصة بالبلدة القديمة, وتتعلق بأملاك المواطنين, مما يعني أنها لم تخرج من المولد بلا حمص, وما لم يتابع الأمر قضائيا وعلى مستوى القضاء الدولي, فإن وضع إسرائيل يدها على الوثائق يساعدها في مخطط السيطرة على المدينة المقدسة, كما أن إسرائيل تنوي السماح غدا للمستوطنين المتطرفين اليهود بالصلاة في باحات الحرم الشريف في ذكرى خراب الهيكل, كذلك فإن إسرائيل عمليا وقفت عند حدود رد الفعل تجاه الحرم, حيث تبين أن الشعب الفلسطيني أولا والشعوب العربية والمسلمة ثانيا ستدافع عن الحرم بقوة, فيما أن الأنظمة العربية والإسلامية _بشكل جماعي أي المنظمات العربية مثل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي_ لن تحرك ساكنا, وأن البيت الأبيض, قد اثبت بأنه صديق حقيقي وحليف فعلي للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة, رغم موقفه المختلف عن الموقف الإسرائيلي تجاه القدس عموما والحرم خصوصا .
لكن الحكومة الإسرائيلية لن تنسى أنها أجبرت على التراجع تحت ضغط الاحتجاج السلمي الشعبي العظيم الذي وحد الكل الفلسطيني في غزة والضفة والقدس وال48 والشتات, كذلك فإنه على الجانب الفلسطيني, يعتبر إجبار إسرائيل على التراجع عن إقامة البوابات الالكترونية ومن ثم حتى عن بناء الجسور والحواجز الحديدية والكاميرات الذكية, والعودة بالكامل إلى ما كان عليه الوضع قبل يوم 14 تموز, بعد انتصار الأسرى في معركة الأمعاء الخاوية التي جرت قبل نحو ثلاثة أشهر, في نيسان الماضي, بمثابة الرافعة التي رفعت المعنويات وشدّت من أزر السلطة الفلسطينية, وقوّت من موقفها التفاوضي قبل أن تبدأ المفاوضات, ولعل في كيفية تعامل السلطة مع موفدي البيت الأبيض اللذين كانا بمثابة مراسلين يقومان بنقل الموقف الإسرائيلي, وصولا إلى رفض الرئيس محمود عباس أن يضم الوفد الأميركي سفير واشنطن في تل أبيب, بمثابة بروفة على ما سيحدث في المفاوضات حول الحل السياسي, التي كان يفترض في الجانب الأميركي أن يعلن عن موعد بدئها خلال هذه الأيام .
إن المكسب الفلسطيني أبعد بكثير من تحقيق الانتصار في معركة عابرة, أو أن النصر كان فقط معنويا, فقد أغلق الانتصار في باحة الحرم, بوابة مفاوضات كان يمكن أن تجري على أساس أحد خيارين: إما أن يقبل الجانب الفلسطيني بما هو أقل من طموحه الوطني, أو أن يقبل بمفاوضات من أجل المفاوضات مهمتها تهدئة الأجواء بما يعني بقاء واقع الحال على حاله, حتى تكتمل حلقات المخطط الإسرائيلي من التنفيذ على أرض الواقع, كما حاول الجانب الأميركي أن يفعل حين طالب الطرفين بالتهدئة, بعد إقامة البوابات الالكترونية بدل أن يطالب بإزالتها ومن ثم التهدئة !
أي أن الانتصار في القدس أغلق بوابة الهبوط التفاوضي التي لا احد يتوقع خلالها أن تمارس إدارة ترامب أي ضغط على إسرائيل لتقبل بالانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران, أو حتى أن تقبل بما كان قد عرضه رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أهود اولمرت قبل نحو عشرة أعوام .
كذلك فإن الانتصار في القدس اظهر إمكانية اندلاع انتفاضة شعبية عربية موحدة ضد النظام العربي وإسرائيل معا, فقد تحرك الشارع الأردني, كذلك تضامن الشارع الجزائري والسوداني والتركي مع مصلي القدس وباتت سجادة الصلاة عنوان مقاومة شعبية شاملة .
وقد أثبتت هبة القدس بأن البلدة القديمة ليست في جيب إسرائيل كما تظن, رغم التهويد المتواصل منذ خمسين سنة, فيكفي أن يبقى الحرم وبعض حارات البلدة القديمة, عربيا فلسطينيا مسلما, ليكون شوكة في حلق إسرائيل, ذلك أن كل المستوطنات المحيطة بالقدس لن تجدي نفعا ما لم يسقط الحرم نفسه, وسقوط الحرم يعني حربا عالمية ضد إسرائيل .
ظنت إسرائيل بسبب من الإجماع الداخلي على ما يسمى بالقدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل, وبسبب قانون الضم الأحتلالي وربما بسبب الانقسام الداخلي الفلسطيني والانشغال العربي بمشاكل الدول العربية الداخلية والبينية, خاصة بعد إسقاط بعض الأنظمة وبعد اندلاع حروب داخلية عديدة بأن اللحظة مناسبة لتهويد الحرم, ونسيت أن بضعة آلاف من مرابطي الحرم, وممن يقيمون في أكنافه قادرون على التصدي.
أي أن هبة القدس أثبتت أمرين معا وفي آن واحد: هما أن ملف القدس لم يغلق ولن يغلق كما تشتهي وتريد وترغب إسرائيل, والثاني أن القدس خط احمر, يبدأ منها الصراع وينتهي فيها, وما من خيار سوى أن يظل الحرم مسلما عربيا فلسطينيا, وأن القدس لن تكون موحدة بشقيها إلا في حال كان الحل ليس هو حل الدولتين بل حل الدولة الواحدة ثنائية القومية .
وهكذا فقد ثبت بأن الصراع ما زال مفتوحا وأن القدس ليست بجيب إسرائيل ولم تتهود ولم تتوحد بعد, كما أنها لم تتحرر بعد, لذا فإن كسب جولة في الحرب لا يعني إلا أن الحرب ما زالت قائمة ومستمرة, وأن الصراع بكل ملفاته ما زال مفتوحا, ومن ينتصر في نهاية المطاف هو من يعد لحرب طويلة الأمد, لا من يخطط لحرب خاطفة .
[email protected]
أضف تعليق