لأن رئيس وأعضاء الحكومة الإسرائيلية لا ينتمون لهذه المنطقة من العالم، التي وجدوا أنفسهم يعشون فيها، ولا يدركون سبب تقوقعهم فيها، فإنهم لا يعرفون معنى أو عمق الحكمة الشعبية التي تحذر عادة من يقوم بإشعال النار، بأنه لا بد من أن يحرق أصابعه بها، ولأنهم كذلك، أي ينتمون إلى عالم آخر وإلى ثقافة أخرى، فإن سبعين سنة من الإقامة في الشرق الأوسط لم تكن كافية - بعد - ليدرك بنيامين نتنياهو عبث اللعب بالمسجد الأقصى؛ كونه رمزاً من الرموز الدينية والقومية العظمي لدى نحو أربعمائة مليون عربي وأكثر من مليار ونصف المليار مسلم.
وظن الرجل وثلة الرجال محدودو البعد في الرؤية السياسية بأن قراراً تجاه الأقصى يمكن أن يتخذ وهم «يلعبون» الطاولة مثلاً، أو أنه يمكنه اتخاذ القرار تجاه المسجد، كما يتخذ أي قرار أمني يخص حاجزاً على طريق من الأرض المحتلة، أو كأي قرار يتخذ بحق بيت لفلسطيني، قام ابنه بتنفيذ عملية مقاومة ضد الاحتلال.
وربما كان ما قالته يوماً رئيسة وزراء إسرائيل السابقة، ضيقة الأفق أيضاً، بعد أن أشعل إسرائيلي/يهودي متطرف النار بالمسجد عام 1969، غولدا مائير: «لم أنم طوال الليل، كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجاً من كل مكان، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده» ، ذلك أنها لم تر ما أعقب ذلك من ثورة غاضبة، توجت بإقامة منظمة المؤتمر الإسلامي وتشكيل لجنة خاصة للقدس برئاسة المغرب، رغم أن حدث الحريق كان فعلاً فردياً، لم يقارن بالقرار الرسمي الإسرائيلي الحالي الخاص بإقامة البوابات الإلكترونية.
ولأن رئيس الحكومة الإسرائيلية وأعضاءها، لم يأكلوا من طعام هذه المنطقة ولم يشربوا من مائها، ولم يتعلموا في مدارسها، وهم موجودون جغرافياً فيها فقط، فهم يعتقدون بأن حالة الضعف الناجمة عن الانقسام الفلسطيني الداخلي وعن الحروب الداخلية العربية، ما هي إلا فرصة سانحة لتمرير أحلام مريضة تداعب مخيلاتهم التي لا ترى الآخرين، وتعتقد بأنه يمكنها أن تفعل كل ما يخطر على بالها، دون أن يردعها أحد، ومن كان لا يقف عند حدود ثقافة المنطقة فإنه بالقطع لم يقرأ شيئاً من تاريخها.
الفلسطينيون يختلفون على «الفتات» وربما على التفاصيل، ولكن عند اللحظة الحرجة يتوحدون، وحين تعجز النخبة عن التوصل للحل الداخلي يفرضه عليها الشارع الثائر، تماماً كما حدث عام 1987، وعام 2000، وكما يحدث الآن، وعلي حكومة نتنياهو أن تقرأ جيداً معزى أن يقدم أكثر فلسطيني معتدل، الرئيس محمود عباس على اتخاذ القرار الصعب بتجميد كل أشكال الاتصال مع الجانب الإسرائيلي، وما يعنيه ذلك من احتمال التصعيد بالموقف، كذلك على حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية أن تقرأ جيداً التظاهرات التي جرت في الأردن والجزائر والسودان وتركيا يوم الجمعة الماضي، وأن تقرأ جيداً معزى ما حدث في سفارتها بعمان.
لكن «طيش» حكومة نتنياهو يجعل واحداً من أهم أعضائها، أفيغدور ليبرمان يرد على قرار الرئيس الفلسطيني بالقول باستخفاف: إن للجانب الفلسطيني مصلحة بالاتصال مع الجانب الإسرائيلي، وما يدفع أكثر من وزير إسرائيلي للتشدق بالقول: إن ملك الأردن والرئيس الفلسطيني لا يقرران ما يخص القدس بل الحكومة الإسرائيلية.
لقد وصلت غطرسة القوة العسكرية في إسرائيل إلى أن تستخف بكل شيء، وهي تفتح النار على الجميع، ولا تترك مجالاً للاجتهاد ولا للاعتدال السياسي، ليس فيما يقابلها على الجانب الفلسطيني، بل وتضع كل العرب وكل المسلمين في دائرة العداء.
هذا أمر جيد لنا، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه في هذا المقال، من أن الإسرائيليين لا يعرفون أسرارنا، رغم كل ما لديهم من أدوات بحث وتنصت وتجسس، ومن مراكز دراسات، لأنهم ببساطة ليسوا من المنطقة، ولا ينتمون إليها.
لم يقرأ الإسرائيليون الحراك الشعبي العربي جيداً، أو أنهم قرؤوه من زاوية واحدة، ورأوه كما خططوا له، أي أن يكون أداة هدم وفوضى تشغل العالم العربي داخلياً وتفتح حروباً طائفية تبعد النار عن إسرائيل بالذات، ولأنهم حققوا الكثير من الإنجاز على هذا الصعيد، فقد ظنوا بأن الوقت قد حان ليظفروا بواحدة من أهم وأغلى ثمرات الاحتلال على نفوسهم، وهي ثمرة القدس، لكنهم لم يروا الجانب الآخر، وهو أن ثقة الشعوب العربية بنفسها قد تعمقت، وأن الشعوب تعلمت درساً وأضافت ثقافة لتجربتها مفادها بأنه يمكن إسقاط الطغاة بالإرادة الشعبية، وبأنه من حق الشعوب أن تحكم نفسها بنفسها وأن تدير بلادها وفق نظام ديمقراطي يطلق طاقات التنمية الشعبية ويحقق التقدم لعالمنا العربي، وأن هذا يعني أن إسقاط أنظمة الطغاة يشمل إسرائيل، التي بوجودها واحتلالها تقمع شعباً عربياً محبوباً عند كل العرب والمسلمين، وتقف حائلاً دون تحقيق أهم أحلام وطموحات الشعوب العربية بالوحدة والتمنية.
وإسرائيل المحكومة من قبل عتاة التطرف والاستسلام لفكر وأيديولوجيا اللاهوت والكراهية، تستعجل الدخول في حرب النهاية مع الجميع، مع كل المنطقة، لأن حربها على القدس والأقصى كما أنها توحد الفلسطينيين في الضفة والقدس وغزة والـ 48، ها هي توحد العرب في فلسطين والأردن وتوحد العرب والمسلمين في كل أرجاء الدنيا، وتعيد توجيه البوصلة، كما نشتهي نحن وكما لن يكون في صالح إسرائيل لا من قريب أو بعيد.
المصدر: الايام
[email protected]
أضف تعليق