استقالة جهاد المقدسي من المعارضة السورية حدث “غير مفاجيء”.. لماذا اختار هذا التوقيت؟ وما طبيعة “السيناريو القذر” الذي لا يريد ان يكون جزءا منه؟ ومن هي الشخصيات الأخرى التي ستحذوا حذوه قريبا؟ وهل سيعود الى دمشق ومتى؟
عبد الباري عطوان
استقالة السيد جهاد مقدسي، رئيس منصة القاهرة للمعارضة السورية، والمتحدث السابق باسم الخارجية السورية، من العمل السياسي، لاسباب قال انها “تتعلق بظروف العمل والحياة التي طالما حكمت الظروف الشخصية”، مثلما جاء في البيان الذي نشره على حسابه في موقع “الفيسبوك”، هذه الاستقالة لم تكن مفاجئة، لا من حيث مضمونها، ولا من حيث توقيتها، ولا نبالغ اذا قلنا ان السيد المقدسي تأخر فيها، وهو الانسان المعروف بحنكته وذكائه.
عرفنا السيد المقدسي عندما كان دبلوماسيا في سفارة بلاده في لندن، وكان وطنيا عربيا اصيلا، يقدم وجها حضاريا للدبلوماسية السورية الجديدة، من خلال أسلوبه الهاديء الموضوعي، وبلغة إنكليزية رفيعة انعكست في مقابلاته على شاشات التلفزيون البريطاني التي كان يشارك في برامجها بكثافة، ويدافع عن القضايا العربية، والفلسطينية بالذات، بمهنية سياسية ودبلوماسية عالية.
نعترف ان الدكتور المقدسي فاجأنا مرتين، الأولى عندما انشق عن النظام الذي كان يتحدث باسم وزارة خارجيته، بعد نقله من لندن الى دمشق، وربما مرد ذلك الى عدم قدرته على التعايش مع ضغوط مراكز القوى وتغول بعضها، والمرة الثانية عندما انضم الى معسكر المعارضة السورية، وهو الذي عرف تناقضاتها وانقساماتها مبكرا، ودخول اطراف دولية وإقليمية على خط “الثورة السورية” لمصالح تتناقض كليا مع طموحات الشعب السوري في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات وحقوق الانسان والإصلاح السياسي، وبقية القصة معروفة، واستخدامها هذه المطالب المشروعة كغطاء لتدمير البلاد وحل جيشها الذي انخرط في كل الحروب العربية ضد المشروع الصهيوني.
***
استوقفتنا الفقرة التي وردت في بيان السيد مقدسي التي قال فيها “ان استقالتي تأتي في وقت يحاك لسورية سيناريو قذر، لا يود ان يكون جزءا منه، معتذرا عن تقديم تصريحات إضافية”، فقد كنا نتمنى لو انه تخلى عن دبلوماسيته المعروفة، وكشف لنا، وللشعب السوري تفاصيل هذا السيناريو، والجهات التي تقف خلفه، والصورة النهائية لسورية التي يريدها اعداؤها لها، وما اكثرهم هذه الأيام.
المعارضة السورية بالصورة التي كانت عليها في بداية الازمة قبل ست سنوات ونصف السنة انتهت، وجرى اختطافها، وحرفها عن مسارها السلمي الذي جعلها محور التفاف الملايين من السوريين، وتتحمل الولايات المتحدة الامريكية المسؤولية الأكبر في هذا الخصوص، لانها ارادتها، او بعض فصائلها، أداة لتخريب البلاد وتفتيتها جغرافيا وديمغرافيا على أرضية الطائفية والعرقية وتدمير كل أسس التعايش التي ترسخت في نسيجها المجتمعي لعقود.
روبرت فورد السفير الأمريكي الذي كان الداعم الرئيسي لـ”الثورة السورية” في بداياتها الأولى، وذهب بنفسه من دمشق الى بداياتها الأولى في حمص وحماه، اعترف في حديث ادلى به قبل يومين لصحيفة “الشرق الأوسط” ان اللعبة في سورية اوشكت على الانتهاء، ودونالد ترامب لن يصمد امام ايران، وطالب بلاده بالانسحاب من سورية، مثلما انسحبت من بيروت عام 1983، عندما جرى تفجير قوات المارينز ومقتل 241 عنصرا منهم، ولاحقا في العراق، واعترف، أي السفير فورد، بانه اخطأ عام 2013 عندما اعتقد ان الرئيس السوري بشار الأسد سيهرب الى الجزائر، او روسيا، او كوبا، ويترك البلاد لحكومة ائتلافية تحت رئاسة السيد فاروق الشرع، وان “حزب الله” لن يتدخل في الازمة السورية لصالح دعم النظام.
الازمة السورية ارتدت الآن الى عمق الدول التي تدخلت فيها، واججت لهيبها، وضخت مليارات الدولارات وآلاف الاطنان من الأسلحة والمعدات لدعم المعارضة المسلحة على امل اسقاط النظام بأسرع وقت ممكن، فقطر تقف على حافة المواجهة مع حليفتها السعودية التي تفرض عليها حصارا خانقا، وبات السيد عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، يتحدث عن رحيل النظام القطري وليس الرئيس بشار الأسد، بينما حكومته تطالب بابعاد كل شخصيات المعارضة السورية في الهيئة العليا في المفاوضات برئاسة السيد رياض حجاب، والمدعومة من قطر، البحث عن مكان آخر، اما حال تركيا والقلق الذي تعيشه قيادتها في ظل الدعم الأمريكي للاكراد ودولتهم المتوقعة، فلا يحتاج الى شرح.
***
استقالة الدكتور المقدسي من العمل السياسي ربما تكون مقدمة لاستقالات أخرى تشاطره القلق والشعور نفسه على المآل المأساوي الذي وصلت اليه المعارضة السورية، والوطن السوري، واقتراب الازمة من اسدال الستار على فصلها الأخير، في ظل تقدم الجيش السوري، واستعادة معظم الأراضي السورية، وقرب اخراج “الدولة الإسلامية” من مدينتي الموصل والرقة، وبدء الاستعداد لاقتحام اهم معاقل “جبهة النصرة” و”احرار الشام” ومن تحالف معهما في مدينة ادلب، معقلهم الأهم والأخير.
اين سيذهب الدكتور المقدسي، لا نعرف، ولكننا نتكهن بأن عودته الى سورية في نهاية المطاف غير مستبعدة، سواء في غضون اشهر او اكثر قليلا، وسيعود الى الحكومة، ليس متحدثا باسم الخارجية، وانما في منصب اعلى بكثير.. لانه لم يفجر في خصومته، ولم يتخل عن الثوابت الوطنية، ولم يتخذ من العواصم التي تورطت في مخططات تفتيت بلاده مقرا له.. والله اعلم.
[email protected]
أضف تعليق