تمتنع الدولة كل عام في شهر رمضان المبارك عن هدم البيوت غير المرخصة في البلدات العربية. وكأن الدولة تود بذلك ان تراعي مشاعر الصائمين وألا تثير مشاعر الغضب والسخط لدى المجتمع العربي والتي تتوقد كل مرة من جديد عند هدم بيت غير مرخص. نتيجة لهذا النهج يكون المجتمع العربي في الشهر الفضيل مرتاحا إلى حد كبير من مشاهد الهدم والتهجير وكأن شهر رمضان المبارك فترة "هدنة" او فترة "وقف إطلاق النار" ان صح التعبير بين الدولة والمواطنين العرب. في هذه الشهر، شهر الصوم، "تصوم" الدولة عن الهدم! ومع ذلك توقف الدولة صيامها عن الهدم في حالات معينة كهدم قرية العراقيب غير المعترف بها في خضم الشهر الفضيل دون مراعاة لمشاعر أهل القرية وهو الصائمون في أحلك الظروف الانسانية وذلك لأن الدولة تصر على اقتلاعهم من القرية مهما كانت الظروف وحتى لو كنا في الشهر الفضيل!
وفي الواقع، ان توقف الدولة عن الهدم في الشهر الفضيل لا يعود الى قانون معين بل هو سياسة إدارية تقودها بالاساس شرطة اسرائيل للحفاظ على الامن العام وذلك بالاساس لان مشاعر الغضب لدى الناس لهدم بيت تكون بطبيعة الحال أعنف في فترة الصوم على نحو قد تنتهي به عملية الهدم بنتائج لا تحمد عقباها على صعيد الأمن العام وسلامة الجمهور. وعليه تؤجل الدولة تنفيذ أوامر الهدم العالقة حتى اسبوعين تقريبا من انتهاء الشهر الفضيل، وتقدم لهذا الغرض الطلبات القضائية اللازمة للمحاكم وحتى انها توافق ايضا على الطلبات القضائية التي يقدمها اصحاب المباني العرب لتأجيل أوامر الهدم مع انها استبسلت قبل ذلك في المحاكم لتمنع اي قرار يجمّد الهدم.
والسؤال الأهم هو كيف نجعل الدولة تظل "صائمة" عن الهدم حتى بعد شهر رمضان المبارك؟
وفي الحقيقة ارى انه في المضمار القضائي الذي علينا تفعليه بجانب العمل الشعبي والسياسي، هناك مسارين متوازيين لتحقيق هذه الغاية، الأول، هو استنفاذ الاجراءات القضائية لتعليق كل أمر هدم من المحتمل تنفيذه، والثاني، تحريك التخطيط المطلوب لترخيص المبنى المهدد بالهدم. ان هذين المسارين متلازمان ومتوازيان. بل ان احتمالات النجاح في التوجه للمحاكم لتجميد الهدم منوط باحتمالات التخطيط وسرعة تسييره.
وبالعكس، إن نجاح التخطيط منوط الى حد كبير بالمساحة الزمنية التي يؤمنها التوجه للمحكمة لتجميد الهدم. وان الامثلة على نجاح العمل بهذين المسارين كثيرة. على سبيل المثال أشير الى قضية قرية دهمش غير المعترف بها، حين استطعنا تعليق أوامر الهدم الادارية التي صدرت لهدم بيوت القرية حتى الانتهاء من البت في قضية الاعتراف بالقرية وتخطيطها والتي ما زالت طور البحث والنقاش في محكمة العدل العليا. مثال آخر هو حي الحاج الاطرش في النقب والذي استطعنا تعليق اوامر الهدم والأخلاء لبيوته حتى تفصل محكمة العدل العليا في التماس أهالي الحي إبطال قرار دائرة أراضي اسرائيل نقلهم لقرية حورة يوم لا يوافق المجلس المحلي حورة على هذا القرار بسبب الضائقة السكنية في القرية وضرورة توفير قسائم البناء لسكان القرية فقط وليكون الحل الأنسب تخطيط حي الحاج الاطرش بموقعه الحاليّ. اشير ايضا الى قضية البيوت المهددة بالهدم جنوب مدينة باقة الغربية لعائلة فقرا يوم استطعنا تجميد أوامر الهدم لهذه البيوت بعد ان قبلت المحكمة المركزية في حيفا الالتماس الاداري الذي قدمته باسم بلدية باقة الغربية لتسيير المخطط الهيكلي المقترح لترخيص البيوت وقد ألزمت المحكمة اللجنة اللوائية للتنظيم والبناء في حيفا بالبت مجددا بهذا المخطط وبفضل ذلك علقت أوامر الهدم لتسعة اشهر اخرى من اجل استنفاذ الإجراءات التخطيطيّة. وقس على ذلك العديد من الحالات التي نجح بها أصحاب البيوت في إنقاذ بيوتهم من الهدم بفضل برنامج عمل قضائيّ وتخطيطيّ يؤدي إلى ترخيص البيوت وتجميد هدم هذه البيوت حتى ذلك الحين.
وان نجاح هذا الاسلوب في العمل، اي السير بالمسار القضائي والتخطيطي في نفس الوقت وتعليق الهدم حتى استنفاذ الاجراءات التخطيطية، هو أحد الاسباب التي أدت في نظري الى سن التعديل الأخير لقانون التنظيم والبناء الخاص بمخالفات التنظيم والبناء والذي عرف باسم "قانون كامينيتس"، اذ يمنح هذا التعديل صلاحيات إدارية لمفتشي لجان التنظيم والبناء لهدم المباني غير المرخصة ومعاقبة المتورطين بمخالفات التنظيم والبناء حتى دون ان تضطر مؤسسات التنظيم الى التوجه مسبقا للمحكمة! بل ان التعديل الأخير يمنع المحاكم من تجميد أوامر الهدم أكثر من الفترات المحددة بالقانون وبهذا يسلبها قدرتها على تعليق اوامر الهدم من اجل استنفاذ الاجراءات التخطيطية. هذا كله بالاضافة الى رزمة جائرة من العقوبات الجنائية على مخالفات التنظيم والبناء ومنها الغرامة المادية اليومية والغرامة المادية الشاملة في نهاية الملف وحتى عقوبة السجن الفعلي، على نحو سيحول عددا كبيرا من المواطنين العرب من اصحاب البيوت غير المرخصة الى فقراء أو سجناء! ولهذا أكرر دعوتي لكل ابناء مجتمعنا، قيادة ومواطنين ومؤسسات، للتفكير جديا بالتوجه لمحكمة العدل العليا للطعن في شرعية ودستورية هذا التعديل لقانون التنظيم والبناء المسمى "قانون كامينيتس" واستصدار أمر قضائيّ من المحكمة يؤجل موعد دخول القانون حيز التنفيذ حتى القرار النهائي في القضية.
لا أومن ان على الهدم ان يتوقف في شهر رمضان فحسب، بل عليه ان يتوقف بشكل عام وخاصة في الحالات التي تتوفر فيها فرصة تخطيطية لترخيص المبنى المهدد بالهدم. ولتتحق هذه الغاية على الدولة ان تتعاون مع المواطنين العرب والسلطات المحلية العربية من أجل إنجاز كل الخرائط الهيكلية التفصيلية العالقة التي تحول دون ترخيص البيوت التي بنيت في أغلب الحالات في ظل تقصير متواصل للجان التنظيم والبناء والدوائر الحكومية وبسبب تقاعسها عن أداء واجبها الأساسيّ القانونيّ نحو المجتمع العربي في مجال الارض والتخطيط. على الدولة ان تراعي مشاعر المواطنين العرب ليس وهم صائمون فقط، بل عليها ان تراعي مشاعرهم وحقوقهم ومطالبهم في باقي أيام السنة ايضا! على الدولة ان تظل صائمة عن الهدم حتى بعد انقضاء شهر رمضان الفضيل، وكم ارجو ذلك وكم أسعى اليه!
* مختص في قضايا الأرض والتخطيط وباحث للقب الدكتوراة في القانون.
[email protected]
أضف تعليق