سارع معظم المعلقين والمراقبين الى الربط بين المجزرة الدنيئة التي وقعت في المنيا، يوم الجمعة الماضي (26/5) وحصدت أرواح 28 شهيدا وأوقعت عشرات المصابين في صفوف المواطنين المسيحيين المصريين، وبين خطاب السيسي في مؤتمر الرياض في اليوم السابق، ونسي أولئك الاشارة الى زيارة قداسة البابا فرنسيس الى مصر الشهر الماضي.
إن أسلوب تنفيذ المجزرة البشعة التي لم يخجل ولن يخجل تنظيم "داعش" الارهابي التكفيري عن تبنيها، يشير بوضوح حتى لمن ليست له خبرة في المجال العسكري أنه لا يعقل أن يكون هناك رابط مباشر بين خطاب السيسي والعملية الارهابية لأسباب عدة، منها أن الاعداد والتخطيط للعملية وتجهيز المعدات والكادر المشارك يحتاج الى أيام، ولا يعقل أن كل تلك التحضيرات احتاجت الى ساعات فقط. ولو كان المقصود احراج السياسي والرد على خطابه لكان أسهل على التنظيم ضرب مركز للشرطة، أو قتل عدد من الجنود مباغتة في سيناء كما يحصل عادة.
لقد شكلت زيارة البابا فرنسيس تحديا للمنظمات الارهابية، التي أزعجها أن يقوم بهذه الزيارة التي جاءت بعد تفجير الكنائس في الاسكندرية وطنطا في نهاية العام المنصرم، خاصة وأنه أعلن أنه جاء ليعزي المحزونين ويشد من أزرهم. وعقد قداسته عدة لقاءات هامة مع رئيس الجمهورية وشيخ الأزهر الشريف، وجه من خلالها رسائل للمجتمع المصري وسجلت نجاحا أقلق تنظيمات التكفيريين الارهابية التي يرجح أنها رأت في زيارة قداسته تحديا لها، فأرادت اليوم أن ترسل له ردها الارهابي على زيارته السلامية. ومن هنا نفهم حرص "داعش" على اختيار هدف مسيحي متحرك، تمثل في مجموعة مؤمنين كانت تقوم بزيارة دينية ومتجهة نحو دير الأنبا صموئيل، حيث " استوقف الإرهابيون الأتوبيس على بعد 4 كيلومترات من المدق المؤدى إلى الدير، وسألوا الركاب: هل أنتم مسيحيون؟ أجاب الركاب: نعم. فأنزلوا الرجال وقتلوهم بنيران أسلحتهم، بعد نهب ما يحملونه من هواتف وأموال وما ترتديه النسوة من مشغولات ذهبية"، وفق روية الأنبا أغاثون، أسقف مطرانية مغاغة والعدوة وكما أكدتها روايات الناجين من الجزرة، الذين أضافوا أن القتلة طلبوا منهم اعلان الشهادتين ولما رفضوا ذلك قاموا بقتلهم بدم بارد.
هذه المجزرة جاءت لتؤكد أحد أهداف التنظيم الارهابي، الذي أعلن عنه بعد اعتدائه على عائلات مسيحية في شمال سيناء قبل شهرين تقريبا، ويتمثل في ترحيل المسيحيين الأقباط عن وطنهم مصر، وهذا ما حدا بأحد المواطنين بالرد على الكاهن في الكنيسة أثناء الصلاة على ضحايا المجزرة الأخيرة، عن سبب قتل الضحايا بقوله "لأنهم مسيحيون يا أبونا"، بينما قال الكاهن أن قتلهم جاء لأنهم مصريون. وأرى أن ما سبق وكتبه غبطة البطريرك ميشيل صباح في هذه المسألة يضعها في مكانها الصحيح، حيث توصل الى أن المسيحي العربي اليوم مستهدف مرتين، مرة كونه مواطنا مثل غيره من المواطنين ومرة كونه مسيحيا. فالمجزرة الأخيرة تشكل تصعيدا واضحا نحو الهدف الذي رسمه التنظيم الارهابي بترحيل المسيحيين، من خلال ضرب أهداف مسيحية صرف بحيث يضمن أن الضحايا هم من المواطنين المسيحيين الخلص، وما يؤكد ذلك توجيه السؤال للضحايا قبل قتلهم عن هويتهم الدينية. واذا كان قد سقط في عمليات تفجير الكنائس سابقا مواطنون مسلمون، وخاصة ممن يتواجدون في محيط الكنائس من عمال وحراس وآخرين، فهنا لا وجود لمن هو غير مسيحي. بل أن التهديد بتنفيذ مثل هذه المجزرة كشف عنه الموقع الالكتروني لليوم السابع من يوم 16 أيار الجاري: "أحد العناصر الإخوانية يهدّد الأقباط بالقتل بعد حادث المنيا". وفي تفصيل الخبر تهديد فعلي من مسؤول إخواني هارب من مصر، يدعى أحمد المغير، بأن دماء الأقباط ستجري كالأنهار بعد حادث المنيا.
الى جانب ذلك أو بعد ذلك يحل العامل الثاني، وهو توجيه ضربة الى الوحدة الوطنية المصرية واحراج السلطة الحاكمة مرة أخرى، واظهار عجزها عن محاربة التنظيمات المتشددة وتقصيرها في حماية مواطنيها وخاصة المسيحيين، واحراجها أمام العالم بعد استقبال قداسة البابا ومشاركة مصر في الحملة العالمية لمحاربة الارهاب. لهذا جاء الرد المصري الفوري هذه المرة والذي تمثل في توجيه ضربة جوية لـ "مناطق تمركز وتدريب العناصر الارهابية المسؤولة عن الاعتداء" داخل ليبيا، كما جاء في بيان وزارة الدفاع المصرية، واستمرت الغارات الجوية لأيام بعد المجزرة، لكننا لا نعرف حقيقة الخسائر الفعلية التي أدت اليها في صفوف الارهابيين الذين ادعوا أنها كانت خسائر مادية فقط.
ولم يقتصر الأمر على الرد العسكري بل أصدر وزير الداخلية قرارا بنقل مدير أمن المنيا من منصبه وتعيين اللواء ممدوح عبد المنصف، حكمدار الإسماعيلية مديراً لأمن المنيا والذي يعد صاحب تاريخ أمني حافل، حيث شغل منصب نائب مدير أمن المنيا، وساهم فى ضبط تجار السلاح بالمنطقة وقضى على الخصومات الثأرية بين العائلات المتناحرة.
إن ما أجمع عليه المراقبون بأن مصر تقف أمام مفترق طرق، يحتم على حكومتها ورئاستها باتخاذ خطوات عملية وحاسمة في محاربة الارهاب داخل مصر نفسها، وعدم الاكتفاء بحركات استعراضية واجراءات وظيفية، بالوصول الى أوكار المحرضين والمفتين التكفيريين، والعمل على تغيير المنهاج الدراسي بحيث يتصدى لأي محاولة للمس بالآخر وصيانة الوحدة الوطنية فعلا وتأكيد أصالة الأقباط في مصر. ومحاربة الارهاب لا تكون بالتعاون مع النظام السعودي راعي جماعة الاخوان المسلمين المتطرفة والتي تخرج من تحت عباءاتها الحركات والتنظيمات الارهابية، وبالمقابل معاداة قطر فقط بصفتها الممول الكبير للتنظيمات الارهابية، لأن قطر والسعودية تبقيان وجهان لذات العملة في المحصلة النهائية.
(شفاعمرو/ الجليل)
[email protected]
أضف تعليق