أتمّ الأسرى الشجعان يومهم الثلاثين في إضرابهم المفتوح عن الطعام، وقد أبدوا تماسكاً وصلابة في التشبث بمطالبهم المشروعة، أحال حسابات وألاعيب وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي «جلعاد أردان» ومعه الحكومة وسلطات السجون إلى الفشل. وأظهر المضربون تفوقاً أخلاقياً وإنسانياً في الوقت الذي أظهرت فيه سلطات الاحتلال إفلاساً أخلاقياً مدوياً، ذلك أن رفض مطالب الأسرى المشروعة يجسد موقفاً عنصرياً وفاشياً. وفي حين انسجمت مطالب الأسرى المضربين مع اتفاقية جنيف الرابعة ونصوصها الخاصة بأسرى الحرب، فإن الموقف الإسرائيلي يتناقض بمستوى حاد معها.
رسائل قادة الإضراب: مروان البرغوثي، أحمد سعدات، كريم يونس أكدت أن إرادة الأسرى المضربين هي الأقوى وكذلك عبرت عن تفوقهم، وكان ذلك أبلغ رد على الحرب النفسية والجسدية التي استخدمتها الأجهزة الإسرائيلية، وعلى مواقف الغطرسة الإسرائيلية طوال أيام الإضراب. يحق لكل فلسطيني وكل مناصر للحرية والتحرر في العالم أن يفخر بالملحمة التي يسطرها الأسرى المضربون في هذه الأيام، تلك الملحمة التي جعلت وتجعل للتحرر الفلسطيني معنى في زمن الإخفاق والانكسار.
يتفوق فرسان الحرية المضربون على الجلادين في كل يوم ولمدة ثلاثين يوماً ويتعهدون المضي في معركتهم حتى النهاية، لكنهم يدخلون مرحلة الخطر الذي يهدد حياتهم، حيث أصبحت حياتهم مهددة أكثر فأكثر، إنهم يدقون ناقوس الخطر عبر عمل متفان مفتوح في سبيل حرية وطنهم وشعبهم. أعطوا وما زالوا يعطون بإرادة قوية صلبة وبأجسام فقدت الكثير من طاقاتها. طال الإضراب وقد استخدم المضربون الشجعان السلاح الوحيد الذي يملكونه مقتربين من الخطوط الحمراء، ولم تستجب سلطات الاحتلال لمطالبهم المشروعة. طال الإضراب ولم يقدم للمضربين الدعم الوطني والشعبي الكافي والضاغط على سلطات الاحتلال. اختلال في الدور الوطني والشعبي لم يصار إلى تسويته لليوم الثلاثين على التوالي، ذلك الاختلال الذي جعل الإضراب يطول ويطول، مهدداً حياة المضربين الشجعان. الاختلال في معركة الأسرى هو جزء من الاختلال في الأدوار وفي المبادرات والأولويات في كل ما يتعلق بالمسألة الوطنية والاجتماعية. كأن الأسرى أرادوا البدء بمعالجة وتصويب الاختلال الأكبر، مستخدمين المكانة الكبيرة التي يتمتعون بها. لكن مبادرتهم واستغاثاتهم لم تقابل بالوفاء المطلوب إلا في حدود ضيقة.
في غياب الاستجابة المطلوبة، فإن الاختلالات تكبر وتزداد خطورة، وتمس أهم العناوين الحساسة كرمزية ومكانة الأسرى في المجتمع والتجمعات، تلك الرمزية التي تحاول سلطات الاحتلال تحطيمها في سياق تنكرها للحقوق الوطنية والمدنية والإنسانية الفلسطينية وفي سياق مساعيها المنهجية والمحمومة لشطب حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
كما نرى فإن المعركة التي بدأها الأسرى هي أكبر بكثير من المطالب المتواضعة التي طرحوها في إضرابهم المفتوح. الذين شككوا بنوايا المضربين، والذين لم ينضموا للإضراب لأسباب سياسية وفئوية، والذين لم يدعموا إضراب الأسرى بالأشكال المؤثرة، والذين اختاروا انتظار النتائج وكأنهم في موقع الحياد، والعاجزون عن الفعل والمبادرة، كل هؤلاء يساهمون في تعميق الاختلالات، وفي تفكك وإضعاف الوضع الفلسطيني برمته وفي إطالة الإضراب وفي دخول المضربين لدائرة الخطر.
دعونا نعترف، لقد واجه الفلسطينيون في العراق وفي مخيمات سورية ولبنان نكباتهم الجديدة وحدهم، وواجه قطاع غزة الحصار وثلاث حروب وحده، وتواجه مدينة القدس التطهير العرقي الجديد وحدها، وواجه الفلسطينيون في مناطق الـ 48 القوانين والممارسات العنصرية وحدهم، وتركت ظاهرة الطعن والدهس التي شملت مئات الشبان تواجه مصيرها دون تدخل واحتضان وتطوير. والآن يواجه الأسرى المضربون سلطات الاحتلال دون دعم كاف. هذه الظواهر تطرح أسئلة كبيرة، حول التحولات الاقتصادية الاجتماعية التي تساهم في التفكك السياسي، بتأثير من التوحش الاقتصادي العالمي الذي فعل فعله في السياسات الدولية وجعلها تتجانس مع التوحش الاقتصادي.
وفي حالتنا الفلسطينية فإن سياسة الكولونيالية العنصرية الإسرائيلية التي أغلقت كل المنافذ السياسية وكل محاولات إنهاء الاحتلال وكل محاولات تمكين الشعب الفلسطيني من التحرر والاستقلال، هذا الانسداد المسكوت عنه عربياً والمتواطأ معه أميركياً ودولياً، تلك السياسة قادتا الى إحباط وهمود الشعب الفلسطيني. لقد فعل العامل الخارجي فعله السلبي على وقع فشل الانتفاضة المسلحة الثانية، وإخفاق اتفاق أوسلو وكل عملية التفاوض طويلة الأمد، وإخفاق المقاومة الإسلامية التي قدمت نفسها كبديل لمسار أوسلو، لكنها اكتفت بالسلطة في قطاع غزة.
كان من المنطقي أن تقود الإخفاقات السياسية المتتالية التي تسببت في إحباط الشعب، إلى إعادة بناء مسار تحرري آخر، والخروج من المسار الذي أدى إلى الفشل والإحباط والهزائم. غير أن السلطة المسؤولة عن الإخفاق والفشل جددت البحث عن حلول في المسار ذاته، وجددت الاعتماد على الوساطة الأميركية في حلتها الجديدة «إدارة ترامب». وهذا يفسر عدم التفاعل الجدي مع مبادرة الأسرى، ومع الظواهر الشبابية العفوية، لأنها تأتي في سياق البحث عن مسار بديل. وإذا كان من السهل تفسير موقف السلطة التي تتبنى سياسة التفاوض والاعتماد على الوضعين العربي والدولي لإيجاد حل سياسي، فإنه من الصعب فهم موقف المعارضة التي لم تفعل شيئاً – تقريباً - لبناء مسار سياسي بديل. ولم تغتنم الحركة التلقائية الشبابية، ولم تنخرط في معركة الأسرى. إن توحش الاحتلال في ظل الائتلاف اليميني القومي الحاكم، المترافق مع انعزال السلطة والمعارضة عن نبض المواطنين ومعاركهم ضد الاحتلال ومن أجل وأد حياتهم، زاد الإحباط إحباطاً.
رغم ذلك لا تنعدم المحاولات لكسر حالة الخمول والتردي، كمحاولة الشبان إغلاق الطرق إلى رام الله، ومحاولة أُسر المعتقلين تنظيم احتجاجات ضد السلطة، ومحاولة الشبان التصادم مع حواجز الاحتلال في محيط رام الله وفي بعض القرى والبلدات القريبة من المستعمرات وحواجز الاحتلال.
ثمة حالة من الاحتقان تزداد يوما بعد يوم، تحتاج إلى مستوى من التنظيم والمبادرة التي تحولها إلى احتجاجات منظمة داعمة لمعركة الأسرى. وما لم يحدث ذلك النوع من التدخل فإن العفوية والارتجال والفوضى ستكون سيدة الموقف، وسيختلط الصراع مع الاحتلال بالصراع الداخلي الفلسطيني، وفي هذه الحالة سيكون المستفيد الأول والأخير هو سلطات الاحتلال. تحديد أيام للغضب والمواجهة مع الاحتلال، والمواقف العامة التي تفتقد إلى آليات للعمل، لا تغير الوضع المرتبك. خلافاً لذلك فإن تفعيل وتعميم مقاطعة الاحتلال اقتصادياً، وانضمام تنظيمات أخرى للإضراب، وتنظيم فعاليات جماهيرية حاشدة منتظمة ويومية، وتفعيل الجبهتين الثقافية والقانونية، ووقف الإجراءات التي لها صلة بالخلاف الداخلي، هذه الأشكال وغيرها هي التي تغير الوضع القائم، وتنتصر للأسرى المضربين، فلا بديل عن الرضوخ الإسرائيلي لمطالب الأسرى المشروعة.
[email protected]
أضف تعليق