هل هنالك عرب ؟ وهل هناك أمة عربية ؟
لم تعد هذه التساؤلات مُستـَهجَنة أو محصورة بغير العـرب في تساؤلاتهم عن العرب ، بل أصبح العرب أنفسهم يتساءلون فيما إذا كان هنالك عرب وأمة عربية . إن الانهيار المتواصل في حالة النظام العربي بما يشمله من شعوب ومجتمعات ودول ، واختفاء مفهوم الأمة تحت وطأة معاول الهدم العاملة بهمة لتدمير الشعوب والمجتمعات والدول العربية قد أعطى هذه التساؤلات مشروعية من الصعب تجاهلها والادعاء بأن الدنيا بخير وأن كل شئ يجري على الساحة العربية بشكل طبيعي . إن تجاهل الواقع بقسوته ومرارته لن يساعد في اختفاء المشاكل أو في ايجاد الحلول لها . هناك مشاكل تختفي آثارها بمجرد إنتهائها ، وهنالك مشاكل تختفي ولكن تبقى آثارها لمدة طويلة أو إلى الأبد . وهكذا هو واقع الحال العربي ، فما يجري الآن ليس اقتتال داخلي ولكنه عملية هدم وتفكيك للمجتمع والدولة بهدف خلق هويات جديدة وانتماء سياسي مُظـَلـﱠلْ بالدين والمذهبية في عملية إحلالية ، الضحية فيها القومية العربية والدولة القطرية العربية وبالنتيجة العروبة والأمة العربية .
تحت ستار الادعاء بعدم تجانس مجتمعات الدول القطرية العربية ، يجري العمل من قـِبَلْ قوى دولية على خلق التبريرات لتدمير وتفكيك تلك المجتمعات ، مع العلم أن معظم مجتمعات الدول المتقدمة تفتقر إلى التجانس بدرجات تفوق تلك السائدة في بعض المجتمعات العربية . ومع ذلك فإن هنالك مساعي حثيثة لتفكيك تلك المجتمعات العربية من خلال طمس الانتماء القومي والتراث والثقافة العربية ورسمها من جديد من خلال ثقافات فرعية عرقية أو مذهبية أو طائفية واعطائها سمواً على الثقافة العربية الحاضنة لباقي الثقافات الفرعية . إن التمادي في ممارسة العداء الطائفي أو المذهبي أو العرقي ضد العروبة والهوية العربية بمكوناتها الحضارية والسياسية قد جعل من عملية هدم القومية العربية هدفاً بالنسبة للعديدين دون توفر أي بديل حقيقي لها ، مما يعني دخول أولئك العرب أو من كانوا عرباً في حقبة من التيه والضياع والضعف التي سوف تسمح لحضارات أخرى ذات أطماع سياسية أو استعمارية لملئ الفراغ والتصرف وكأنها قوة إنقاذ من ذلك الفراغ تملك من الأسباب والمسببات ما يبرر وجودها ويُشَـرْعِنـَهُ مع أن مهمتها تدميـرية واحلالية بدون وجه حـق أو شرعيـة دستوريـة أو قانونيـة .
يدور التساؤل حول ما اذا كانت عوامل الهدم ذاتية أم خارجية مفروضة على العرب ؟ الحقيقة هي أن عوامل الهدم خارجية بينما عوامل الانهيار ذاتية محلية ، تلك هي حقيقة الأمر بإختصار ، والعرب تفوقوا على أنفسهم في تسهيل أمور الهدم والانهيار في كلا الحالتين . ولعل أخطر ما فعله العرب بأنفسهم هو فشلهم في رفض أنظمة الاستبداد والظلم التي حكمتهم لعقود طويلة والتخلص منها ومن آثارها ، وجنوحهم غير المبرر نحو الخضوع والخنوع لارادة الحاكم ، مهما كان ذلك الحاكم فاسداً أو مستبداً . وقد سَهـﱠلَ هذا الأمر من قدرة قوى الهدم الخارجية على التعامل مع الحالة العربية نظراً لإنحصار مهمتهم في التعامل مع الحاكم المستبد وكسب رضاه أو موافقته المعلنة أو الضمنية على التسلل الهادئ داخل النسيج الاجتماعي والسياسي للمجتمع تحت عناوين مختلفة مما أدى في النهاية إلى تسهيل مهمة هدم تلك المجتمعات وبالتالي الدول من خلال استنهاض عوامل التدمير الذاتي الكامنة داخلها .
من المستحيل تجاهل دور اسرائيل وبعض الدول الاستعمارية في تغذية عوامل التناقض داخل المجتمعات العربية واللعب على مفهوم الاقليات الدينية أو المذهبية أو العرقية . ولكن هذا يجب أن لا يشكل مدخلاً لابراء ذمة العرب وأنظمتهم الحاكمة من مسؤولياتهم في حماية مجتمعاتهم ودُوَلـِهمْ والدفاع عنها ، وعدم الاستسلام لارادة القوى الخارجية التي عملت على استنهاض التناقضات الداخلية للاسراع في عملية الانهيار الذاتي . إن ما جرى في العراق وليبيا وما يجري في سوريا واليمن هي أمثله حقيقية على هذا المسار التدميري والدموي المؤلم الذي لا يمكن تبريره تحت أي عنوان .
ولكن أين العرب من العالم ومما يجري فيه ؟ من الواضح أن العرب قد أصبحوا في مأزق نتيجة افتقادهم لمنظومة القيم التي تحكم شعوب العالم المتحضر والتي تؤكد على المواطنة المتكافئة كقيمة أولى في المجتمع وعلى قدسية الحريات الأساسية للرجل والمرأة والطفل وعلى أولوية الحق وسيادة القانون وعلى كون النظام في خدمة الشعب وليس العكس . أين العرب من الثقافة والفنون والموسيقى كقيم حضارية في حد ذاتها وليس كقيم مرتبطة بأولويات نظام الحكم ورغبات الحاكم أو مزاج رجال الدين ورؤيتهم للأمور ؟ أين العرب من كل هذا وذاك ؟
إن فصل الدين عن الدولة من منظور تلك القـِيَمْ لا يهدف إلى الاقلال من قيمة الدين أو تجاوزه أو التعدي عليه ، بقدر ما يهدف إلى تحرير تلك القيم الحضارية من قيود بعض رجال الدين ونظرتهم الضيقة والمتزمتة ، وليس من الدين نفسه ، كما يهدف إلى تجنيب الدين أية خلافات أو لـَغـَطْ أو خـَلـْطٍ قد يفسره البعض من جراء آراء قد يطرحها البعض الآخر في مجال الآداب والثقافة والفنون . والقانون المدني المستند إلى منظومة القيم العامة للمجتمع كفيل بوضع الضوابط التي تمنع البعض من الشطط وفي الوقت نفسه تحد من قدرة بعض رجال الدين على الشطط أيضاً في تفسير الأمور من منظور متزمت ضيق إقصائي في جوهره وتكفيري في مساره .
إن الاصرار على التشبث بالماضي وافتقاد الرغبة أو القدرة على التطور والتطوير وإستمرار حصار الفكر المتجدد بمنظومة القيم القديمة البالية ، والخوف من رجال الدين وكأنهم أوصياء الله على الدين وعلى الناس والمجتمع ، قد جعل من العرب أمة لها تاريخ ولكن ليس لها مستقبل . فالشعوب لا تعيش على أمجاد الماضي فقط ، ولكن أيضاً وبالاضافة على منجزاتها للمستقبل . وهنا يكمن الفرق بين شعوب ميته تعيش في الماضي وللماضي وشعوب حية تسعى إلى المستقبل . فالانجازات المستقبلية تشكل اللاصق الذي يُحَوﱢل المجتمع من طاقة سلبية خانقة إلى طاقة ايجابية متجددة تعزز الشعور بالفخار والانتماء والقدرة على الانجاز .
وفي خضم هذا الواقع المتردي يبرز السؤال الرئيسي فيما إذا كان هنالك أي مستقبل للعرب والعروبة ؟ الأماني والتمنيات لا تكفي لتغيير الواقع خصوصاً إذا كان ذلك الواقع مريراً . ولكن هل يملك العرب حالياً ما يكفي من عوامل القوة الذاتية لتغيير واقعهم السئ ؟ والاجابة الصحيحة المباشرة هي بالنفي .
لقد فـَشِلَ العرب ابتداءً في تطوير فكرهم القومي لتمكين عقيدتهم القومية من الاستجابة للمتغيرات والتحديات بل وضرورة استباقها ، حيث اكتفى المفكرون القوميون بتكرار ما كتبه الأوائل مثل ساطع الحصري ومحمد عزة دروزه وميشيل عفلق وقسطنطين زريق ولم يعملوا على تطوير ذلك الفكر ، مما ساعد على بقاء الشوفينية القومية والاقصائية في صلب الفكر القومي العربي ، ناهيك عن ارتباط التوجه والمد القومي بالأنظمة العسكرية والانقلابية عوضاً عن ارتباطه بالجماهير .
على العرب إعادة خلق عروبتهم وإعادة تشكيلها على أسس جديدة بعيدة عن الاقصائية والشوفينية القومية مما يتطلب توفر أرضية متماسكة تشكل نقطة الانطلاق لذلك ضمن رؤيا جديدة . وحتى الآن فإن مصر كقاعدة عربية متماسكة تشكل تلك الأرضية بعد أن سقط العراق وسوريا من الخارطة السياسية المؤثرة في حين أن ما تبقى من دول عربية هي عبارة عن قبائل على شكل دول أو دويلات آيلة للسقوط إما سهواً أو بفعل السماح للأنظمة الفاسدة والمستبدة الواقعة تحت نفود الأعداء الخارجيين ، باستنهاض عوامل الانهيار داخل مجتمعات تلك الدول أو الدويلات .
على العرب أن ينظروا إلى مستقبلهم بطريقة جديدة تقترب بحزم ووضوح من مفهوم الهوية وتبتعد عن مفهوم القومية الانغلاقية المتعصبة مع التركيز على الرابطة الثقافية داخل المجتمع وليس الرابطة القومية السياسية . والعرب بذلك يبتعدون عن الاقصائية ، مع التركيز على المواطنة وليس الدين بإعتباره الرابطة الأساس بين مواطني الدولة وأفراد المجتمع ، فبعض أهم أعداء الأمة العربية مثلاً هم من المسلمين في حين أن بعض أهم اصدقائها من غير المسلمين . اللغة والدين والارث الحضاري المشترك لم يعد كافياً لتشكيل الأمة . المواطنة المتكافئة والمصالح المشتركة وسيادة القانون وأولوية الحق هي ما يصنع الأمم ، وهذا ما يجب أن يركز عليه مفكروا الأمة وساستها في سعيهم الصادق لإعـادة بعث أمة عربية جديدة قابلة للحياة والاستمـرار ، واحتضان عوامل التقدم والتطور في كافة المجالات كأدوات لتحقيق ذلك وجعله ممكناً .
الهوية العربية الجديدة يجب أن تعكس أيضاً الرابطة الثقافية والموروث الحضاري المشترك بإعتبارهم قوة إيجابية ذات طبيعة تعددية وأن تبتعد عن كونها هوية سياسية إلزامية ذات طبيعة اقصائية وبالتالي تفتيتية . وهكذا فإن الهوية العربية الجديدة يجب أن تتسع بشكل يسمح لها بالقبول بتعددية الأصول والأديان والمذاهب والاعراق داخل المجتمع ضمن مفهوم المواطنة المتكافئة بل وأن تعتبر ذلك أمراً ايجابياً وضرورياً على طريق التقدم والبناء .
*مفكر ومحلل سياسي
[email protected]
أضف تعليق