ليوم الارض وقع خاص على حارتنا. في كل عام, وعشية يوم الارض نهاية شهر اذار, نرى سيارات الشرطة تتجول بكثافة في حارتنا مستعملة الاضواء الزرقاء الدوارة, وتستمر بذلك حتى ساعات الليل المتأخرة. لم يكن الامر مخيفا لنا أطفال الحارة, رغم اننا كنا نختبئ عندما نراها تقترب منا.
بعد مرور سيارة الشرطة من جانبنا نخرج من مخابئنا, نراقبها, فجأة تختفي. يصر أحد الاطفال على ان الشرطة تقوم بزيارة احد المتعاونين معها, يذكره بالاسم, نتوجه باتجاه بيت ذلك الرجل, لكن قبل ان نصله, تقابلنا سيارة الشرطة في طريق عودتها, فنختبئ ثانية.
قبل يوم الارض بعدة ايام, ننضم الى الكبار لتنظيف الاعشاب التي تحيط النصب التذكاري, من هنا يبدأ التجمع, ويتوجب ان يكون المكان جاهزا, فالمشاركون هم ضيوفنا, هكذا كان يقول الكبار, فالنصب التذكاري لشهداء يوم الارض موجود في مقبرة حارتنا بالقرب من قبر الشهيد رجا ابو ريا, ورجال من حارتنا هم من بادروا لإقامته.
بعد سقوط الظلام نجتمع بالقرب من بيت عمتي, بجانب اشجار السرو لنبدأ العمل على تحضير أكاليل الورود التي سنضعها على أضرحة الشهداء وتحضير الاعلام التي سنقوم برفعها خلال المسيرة, نقسم المهام, المجموعة الاولى تحضر اكاليل الورود, فتجمع قضبان الحديد, وتقص اغصان السرو وتقطف الورود. اما المجموعة الثانية, والتي عادة ما كنت احد افرادها, فكنا نحضر الاعلام, نحضر القماش الابيض من البيت, نقصه بالحجم المناسب, وعندها يبدأ النقاش الذي يعود على نفسه كل عام, كلنا يعرف ان الوان العلم اربعة: اسود, ابيض, احمر وابيض ويبقى السؤال اين موقع كل لون.
في احد ايام الارض اعتقل احد شبان الحارة المجاورة بتهمة رفع العلم, عند التحقيق معه وتعذيبه بصورة وحشية على ايدي رجال المخابرات اعترف بذلك, وبعد تقديم لائحة اتهام ضده تم احضار العلم المتهم برفعه الى قاعة المحكمة لإثبات التهمة عليه, هناك اتضح ان العلم الذي كان يرفعه ليس علم فلسطين, انه يحمل نفس الالوان الاربعة لكن في ترتيب مختلف, كان ذلك سببا لتبرئته.
كان عمر عمي رجا ثلاثين عاما، ويقي عمره ثلاثين عاما، والدي يكبره بسنتين، في الحقيقة لم يكن اخ والدي، بل كان ابن عمه، ولكننا تعودنا جميعا في الحارة ان نناديه بعمي رجا، حتى أمي كانت تناديه هكذا، اما زوجته السمراء اللطيفة الجميلة، صبحية، فكنا نناديها زوجة عمي رجا، واستمرينا نناديها بهذا الاسم حتى الْيَوْمَ.
قبل نحو خمس سنوات من ذلك الْيَوْمَ تزوج من صبحية ابنة خاله، وولدت لهما اربع بنات، شاديا, ناديا, رسمية وغزالة، أنا لا اذكر عرس عمي رجا، فقد كنت صغيرا، لكن أمي تقول انه كان يختلف عن باقي أعراس الحارة، في ذلك الْيَوْمَ كان النور يشع من وجهه فرحا وابتهاجا، لم يكن يحب ابنة خاله فحسب، بل كان يعشقها.
كانوا يسكنون في بيت كبير، أنهوا بناءه قبل اشهر قليلة من استشهاده، يبعد عن بيتنا عشرات الامتار، بناه من عرق جبينه وكده، كان يعمل قصارا.
عمي رجا رجل بهي الطلّة، يفرض احترامه ومحبته على الجميع، لم يبخل بالمساعدة على احد، شجاعا لا يهاب احد. كنت اجلس بجانب أمي بين نساء الحارة وهن يتحدثن، فجأة يسكتن، اسأل عن سر هذا الهدوء المفاجئ، فتجيبني والدتي بصوت منخفض: عمك رجا يقترب وهو لا يحب هذا الكلام.
بيتنا عبارة عن غرفة واحدة واسعة، تطل الى الغرب، ندخل اليها من باب السر، وهو باب أشبه بالشباك له عتبة منخفضة، اسكن فيه مع ابي وامي واخوتي الثلاثة. بجانبه بيت عمي, وهو أيضا عبارة عن غرفة واحدة تطل الى الغرب, يسكن بها مع عائلته المكونة من سبعة أنفار. في الطابق العلوي هناك أيضا غرفتين وأمامهما شرفة طويلة، نسميها برندة، في احداهما يسكن جدي وجدتي اما الغرفة المجاورة فقد خصصت لعمي الاصغر.
لم نعتد رؤية ابواب بيوت الحارة في النهار مغلقة, فهي دائما مفتوحة, لكن في ذلك اليوم اغلق والدي باب السر وحذرنا من فتحه, لكن سرعان ما دفع بنا الفضول الى فتحه لنتفاجأ بأعداد كبيرة من الجنود تملأ حارتنا, صوب احد الجنود بندقيته باتجاهنا وصرخ بلكنة مكسرة : سكر باب, فزعنا واغلقنا الباب.
بعد ساعات قليلة بدأنا نسمع اصوات الرصاص كزخات المطر, فجأة سمعنا صوت جدتي تنادي رجا ان يعود الى بيته: انهم وحوش, سوف يقتلوك فأجابها بصوت عال : الموت ولا المذلة, الموت ولا المذلة. لم تمر الا دقائق قليلة حتى وصلت الانباء ان الجنود اطلقوا النار عليه, وانه ملقى على الارض بجانب المقبرة ينزف دما, رفض الجنود السماح لسيارة الاسعاف الاقتراب منه لنقله الى المستشفى, وبعد نحو ساعة نجح عمي بالاقتراب منه مع بعض شباب الحارة, نقلوه الى مستشفى نهاريا, هناك اخبروهم انه فقد الحياة.
وقع خبر سقوط عمي رجا شهيدا على الحارة كالصاعقة, ولم يبق حينها احد في بيته, خرج الجميع الى الشوارع يقذف الحجارة باتجاه الجنود, ونجحت بعض النسوة باختطاف احد الجنود واخفائه في احد بيوت الحارة القريبة من بيت عمي رجا, وقمن بتكميم فمه وربطه بكرسي. في مساء اليوم بدأت مفاوضات بين الجيش والنسوة تم في نهايته تم الاتفاق على اطلاق سراح جميع الشباب المعتقلين مقابل اطلاق سراح الجندي.
في اليوم التالي تم احضار جثمانه من معهد الطب الشرعي في ابو كبير الى بيت والدته, سمعت بكاء والدته جميلة وزوجته صبحية وكل نساء الحارة, لا اذكر ان تم تحميم جثمانه لكن اذكر انني رأيت زوجته صبحية تمر من تحت التابوت. وبعد ذلك رافقه الالاف من بيته الى المقبرة.
في يوم الارض عام 1976 كان عمر عمي رجا 30 عاما, وحتى اليوم بقي عمره ثلاثين عاما.
[email protected]
أضف تعليق