ثلاثة أمكنة لا تبرح دمي، لا تخون حنيني، أمكنة تنام وتحلم معي، أمكنة لا تموت، لا تستريح مني ثلاثة أمكنة هي أنا، هي تاريخ الندى في روحي، إن مت تنوب هذه الأمكنة عني في استلام بريدي، بريد الحواس، تدافع عن أخطائي، وتطبب لي أورام غيابي، ثلاثة أمكنة، ثلاثة ملائكة خلقتهم من صلصال هياجي، من قماش مجهولي، أمكنة ليست قابلة للزيارة لأنها داخلي، تتنفس من عطشي، ترضع من صحرائي أشمها، أتحسسها. في الليل أنهض من فراشي، والعالم نائم، أوقظ الأمكنة الثلاثة، أمددها على سريري بجانبي، نصبح أربعة أمكنة، نختلط مع بعضنا البعض، نضيع فينا، ونبحث عنا، لا حدود، لا بداية ولا نهاية، ثلاثة أمكنة، يرجني زعيقها داخلي، ويرميني على قارعة الوقت، ثلاثة أحصنة تصهل فوق رمشي، ثلاثة تلال مشجرة تخفق فوق خاصرتي، لا تريحني ولا ترتاح. ألا تنامي أيتها الأمكنة؟ ألا تشتاقين لغيبوبة أو سفر أو موت مؤقت؟؟
المكان الأول: القدس، قبر ليدينا
طريق ترابي، بعيد عن صخب العربات والأزقة ونداءات الباعة وعيون الأهل والجنود، طريق ترابي طويل، بدايته درج عتيق، نهايته فراغ الخلاء، تمشي بجانبي، خائفة وسعيدة، أمشي بجانبها صغيراً ومخترقاً، معطفها الجلدي بني، قميصي الشتوي أسود، المسافة بين يدي ويدها، هي نفس المسافة بين طرف ابتسامتها وطرف شهقتي، على جانبي الطريق أزهار كثيرة تطل من حدائق مجهولة، صخور كبيرة وبضعة قبور، وعلى الأرض شقائق نعمان يمشي معنا.
طريق ترابي طويل، يكفي لارتباكنا وجمالنا، يفيض بهما، ساخراً وكريماً يوزعهما على الطرقات الأُخرى، الآن في متنصف الطريق، اليد باليد خافتتين، باردتين، حزينتين، الآن أشم طرف معطفها، تتفرس قميصي، لمعطفها رائحة اعتراف غير مكتمل، لذيذ، مؤلم، لقميصي تعب الحدائق حين يتأخر البستاني او يموت في الطريق، الطريق لا ينتهي، يدها تخرج من يدي فجأة، يدي تهرب إلى جيبي، يدها تختفي، لمن هذه القبور؟ سألتها؟
ليدينا، أجابت وهربت بعينها نحو التلال، طريق ترابي طويل ولا ينتهي.
المكان الثاني: رام الله البيت الصامت والعتيق
مهرجان رام الله للثقافة والفنون، كنت أجلس معها في ساحة كبيرة مليئة بالبشر أطفالاً ونساءً ورجالاً ومراهقين، نسبح في شغب الكراسي، وازدحام الأكتاف، على المنصة كانت فنانة جميلة تغني عن الناي والمدن والرحيل والخوف، البشر في عالم وكلمات المغنية في عالم آخر، فقط أنا وهي من أصغي بحب وصمت، فقط أنا وهي من أوشكا على الذوبان في ثلج المعاني.
بعد نصف ساعة سئم البشر من المعاني الغريبة والصوت الهادئ، تفرقوا كل إلى لا معناه، الى لا جدواه، بقيت معها، ليس بجانبها تماماً، الوضعية التي تسمح لي أن أرى جانب وجهها الأيسر، نظرتها الغارقة في الرمل واللينة، إغماضة عينيها السكرانتين، غناء خصلاتها الأخرس على إيقاع الموسيقى، كان الصيف قاتلا تلك الليلة، لا نسمة، لا شيء يتحرك سوى حبات العرق فوق الشفاه الرطبة، يا الله! كم كان السكون مدوياً ومعذباً! سكون الشجر والتراب، والله، كان غناء الفنانة الناعم والهامس يكثف هذا السكون ويعطيه معنى التوقف النهائي والمريع الساخن، ثمة أشياء لا أراها كانت تختنق، وتنحشر في الزوايا، ثمة صياح مخنوق كان يسيل من شقوق جدران السور المحيط بالساحة الواسعة، هل كنت احبها؟ هل أجرؤ على الاعتراف؟
كانت أنثى حقيقية بعيداً عن شروط المدنية الكذابة.
انتهت الحفلة، عائدان الى البيت مرهقان ووحيدان، بيت عتيق كانت تسكنه، بيت بست حجرات، وشرفة زجاجية مطلة على شارع جانبي، هادئ، دخلنا، ارتمت على الأريكة القديمة، تدندن لحناً، وتقول ضاحكة: آه لو عثرت على رجلي في هذه المدينة سأبقى فيها، الرجل هو المدينة، هل كانت طعنة في رجولتي؟ جلست على الأرض احدق في الجدار شبه المعتم، صمت جسدها، سمعته ينام، نهضت، أتجول في الحجرات، في غرفة نومها، مشيت، تمرغت بشراشفها ونافذتها، جلست على سريرها، أقراطها على الطاولة وعطرها مسكوب نصفه، كوب النسكافيه الملون، على الطاولة وحيد ومنتظر، الجدار بجانب سريرها مكشوط، البلاط تحت أقدامها بارد وباهت، كتب لهدجر وسارتر على الأرض، خرجت إلى الحديقة، أتجول حول البيت، ابحث عن لغز السحر فيه، مدعياً أني لا أعرف أن الجسد النائم على الأريكة هو السحر بعينه، هل كنت أحبها؟ وهل أجرؤ على الاعتراف؟
عدت الى الحجرات، كان الجسد النائم قد استيقظ، كان صديقي يجلس بجانبها يهدهد بعينيه كسلها الرائع عيناه الآسرتان المليئتان بالشغب. انتظراني سأذهب لأستحم، قالت تاركة جسدها لدينا وذهبت
مع صديقي في الشرفة، بانتظارها، سمعنا صوت الماء، ام تراه صوت جسدها؟ الذي يستحم الماء به؟ خرجت، مبلولة الشعر مجنونته، خفيفة الملابس، ضاحكة، بعيدا عني وقفت أمام صديقي، تطلب رأيه في فستانها الخفيف، مد صديقي يده تحسس طرف فستانها وأطلقه من يده بحركة دائرية قائلا: انها النجوم التي تطير فوق فستانك.
ضحكت بصوت عال، غصت أنا في قعر الأريكة، لم أجدني، سمعتها تقول فيما يشبه الغيبوبة الصاحية: موجهة كلامها لصديقي: آه لو أعثر على رجلي هنا لعثرت على مدينتي الأخيرة، لم يجب صديقي، سمعته يتنهد، سمعتها تنحني باتجاهه وتسقط في عينيه العذبتين، ساد صمت غريب، صمت الصيف اللاهب، صيفهما، غادرت سيدة الكسل الرائع، الى مدينة أُخرى، لم تجد رجلها هنا، لكنها عاشت في صيف صديقي ليلة كاملة، بحثاً عن ماذا؟ لا ادري أتوهمت أنها رأت أضواء مدينة فهرعت نحوها، واكتشفت بعد احتراق خفيف أنها أضواء موكب عربات؟ حدث هذا منذ سنوات، البيت العتيق لم يغادر، أسكنته دمي وتنهداتي، أسكنته انا، البيت العتيق هو امرأ تي. انا وجدت امرأتي، وجدت مدينتي، وهمي. كل يوم أمر عن بيتي العتيق عني، كل يوم ابكي، وابتسم. وسط حيرة أصحابي وحيرتي انا. وحيرة الجيران. وحيرة البيت نفسه. وحيرة الحيرة نفسها.
المكان الثالث: قتل الأحباء في ساحة الشهداء
هنا كان حسين البرغوثي يمشي ببطء، هنا جلس على هذا الحجر، هنا نظر الى الشجرة، وهنا قال لي: اقتل أحباءك، كان يقصد الكلمات والعبارات العذبة والرائعة حين تتواجد في سياق فني خاطئ غير سياقها، هنا في هذه الساحة التي ما زالت تسكن روحي، أمضى حسين عشرين ظهيرة شتوية دافئة، بانتظار أخذ الإبر من المشفى القريب، بترا ومهيب وأنا، نجلس معه او نمشي، حين تتسلل لحسين رغبات الصمت والهرب والحزن، كنا نهرب بعيدا عنه تاركينه، الى حالاته وأسئلته وكائناته، الشجر هناك عال وكثيف واخضر جدا، والعشب طويل، وناعم، نصف الساحة معبد ونصفها غير معبد، لكن حسين كله كان جميلا تلك الظهيرة.
الظهيرة الاخيرة، معه، كنا نمشي، معه جيئة وذهابا على القسم المعبد من الساحة، كان يلبس طاقية صوف وبالطو شتوي طويل، كان لا يسأم من الحديث في الفن والفلسفة، والأدب والحياة، مهيب يتسكع تحت الشجر، بترا تحدق في العشب، أنا أسير مع حسين وهو يقول لي: اقتل أحباءك، اقتل أحباءك، مرة من المرات، عرضت عليه نصا لي، قرأه باهتمام كبير، ثم ألقاه نحوي، وهو يقول، كمية الادعاء في نصك كبيرة، كن عفوياً، واترك كائناتك تتحرك كيفما تشاء، لا أطلب منك ان تغيب عن الوعي، كن في البرزخ، بين الصحو والغيبوبة.
يصمت وأصمت مأخوذاً بصدقه، ووفائه للفن، ونمشي، نمشي تحت الشمس الحنون، في الساحة التي سيدفن فيها بعد اشهر قليلة سبعة عشر شهيداً سقطوا في رام الله أثناء الاجتياح الكبير، لم يجد الناس وقتاً بسبب منع التجول لدفن الشهداء في المقابر العادية، فدفونهم هنا مؤقتاً، لكن المؤقت صار أبدياً، وصار الشهداء جيراناً لخطوات حسين التي ما زلت أسمع وقعها الخافت على القسم المعبد من الساحة، ساحة الشهداء، ساحة خطوات وتحديقات وحالات وصوت صديقي، لا أدري كيف استيقظ على جسدي أحياناً وهو يقف هناك، تحت شجرة، فوق صخرة، على المساحة المعبدة، عن ماذا ابحث هناك؟
فقد مات حسين ولم يعد يأتي الى هنا، لم يعد جسده يحتاج إبراً، عن ماذا أبحث هناك إذن؟
لا إجابة، لكن احس بنشوة قاسية تغسلني، كأن ثلجاً يصافحني حين المس عشبة مر فوقها حسين، كأن غيمة تطير من فرع من فروع شجرة مر تحتها حسين، ما زال هذا المكان، يسكنني حتى الألم، حتى الحب، حتى حسين.
[email protected]
أضف تعليق