تحدّث التقرير الاستراتيجي الإسرائيلي عن تحديات متعدّدة تواجه إسرائيل تحت الظروف السائدة الآن في المنطقة، وأشار إلى عوامل مساعدة لإسرائيل وأخرى سلبية تؤثّر على قدرة إسرائيل في الدفاع عن نفسها. أشار التقرير إلى القوة الصاروخية المتنامية لدى إيران على مستويي الحمولة والدقة والأذى الذي يمكن أن تلحقه تلك الصواريخ بإسرائيل. وركّز التقرير بصورة أساسية على حزب الله كتهديد مباشر ومجاور وقدرة صاروخية هائلة تتميّز بدّقة الإصابة وقوة تدميرية كبيرة. وأوضح أيضاً أن حماس تشكّل مصدراً خطيراً للقوة المعادية لكنها لم ترتق إلى مستوى الردع الاستراتيجي. حزب الله هو أشد ما يُخيف إسرائيل الآن بخاصة أنه أصبح جيشاً قادراً على اختراق الحدود والسيطرة على مستوطنات صهيونية في شمال فلسطين المحتلة/1948.
ولم ينس التقرير أن يُشير إلى أصدقاء إسرائيل من الحكّام العرب والمساعدة التي يمكن أن يقدموها لإسرائيل في حال نشوب حروب. ذكر المقومون الاستراتيجيون أن بعض الدول العربية الخليجية ستكون مستعدّة لرفع مستوى التنسيق مع إسرائيل لمواجهة إيران في حال ألغى الرئيس الأمريكي الجديد الاتفاق النووي، لأن هذه الدول أو الإقطاعيات تعادي إيران بقوة وهي معنية بالتخلّص من نظامها السياسي. وتستعمل تلك الدول تحالفاً سنّياً لمحاربة إيران وستكون إسرائيل داعمة له. أي أن التقرير ما زال يراهن على نجاح الفتنة الشيعية السنّية التي بدأت حلقاتها عام 1979.
الاستراتيجيون الإسرائيليون مستاؤون من مجرى الحرب في سوريا. لقد بنوا آمالاً كبيرة على انهيار النظام السوري وقيام نظام سياسي جديد لا يُعادي إسرائيل ولديه الاستعداد أن يحذو حذو مصر السادات والأردن. لكن مسار الحرب في الآونة الأخيرة بخاصة بعد حلب يُشير إلى قوة النظام السوري وقوة حلفائه وإصرارهم على الاستمرار في الحرب إن فشلت جهود البحث عن حل سياسي. وإذا بقي النظام السوري، وهو سيبقى حسب تقديراتهم فإن إسرائيل ستواجه المزيد من المخاطر من حيث أن النظام لن يعود واقفاً موقف الداعم للمقاومة فقط، وإنما سيعمل على تطوير جبهة الجولان لتكون جبهة إضافية في مواجهة إسرائيل، وسيبقى صديقاً لروسيا الحريصة على البقاء في المنطقة. وهم يقولون إن الوجود الروسي لا يخدم إسرائيل لأنه سيبقى حامياً للاستقرار في سوريا، وستتطوّر العلاقات مع بعض الأطراف العربية لكي تصل إلى منسوبها القديم أيام الاتحاد السوفياتي.
إسرائيل تخشى تحالف المقاومة الذي يمكن أن يتمكّن ويقوى بعد بقاء النظام السوري. فهي ترى أن النظام السوري الباقي في الحكم لن يكون النظام السوري الذي كان قبل الهزّات الداخلية السورية. النظام لن يكتفي بدعم المقاومة في لبنان وربما في فلسطين، وإنما سيعمل على تقوية الجيش ليكون جيشاً حديثاً وفق المعايير العلمية والاحترافية المرعية في العديد من الدول المتطوّرة عسكرياً، وسيعمل على تطوير اعتماده على نفسه من خلال التصنيع العسكري. لكن الأهم أن تحالف المقاومة سيكبر وسيمتد من إيران إلى العراق فلبنان وربما إلى غزّة إذا تحسنت العلاقات بين تحالف المقاومة وحركة حماس. العلاقات مع حركة الجهاد جيّدة وهناك تنسيق قائم بين الحركة وبين مختلف أقطاب الحلف، ووجود الجهاد في غزّة سيؤمّن التواصل المستمر بين غزّة والحلف بكافة أركانه. بالنسبة لإسرائيل، هذا حلف يهدّد وجود إسرائيل، وهو حلف قوي وله امتدادته العالمية ومناصروه في الساحات العربية بما فيها الساحات الخليجية.
لكن المسألة الأهم التي أغفلها التقرير الاستراتيجي الإسرائيلي هي نوعية الجندي. لا شك أن نوعية السلاح مهمة، وقوة النيران تحسم المعارك أحياناً، لكن العبرة في النهاية ليست بالعدّة وإنما باليد التي تستخدم السلاح وقدرتها على التوجيه بالشكل السليم وبكفاءة عالية. في هذا الوقت الذي نحن فيه، وكما أثبتت التجارب القتالية في جنوب لبنان وجنوب فلسطين، الجندي العربي لم يعد ذلك الذي كان، ولا الجندي الإسرائيلي بقي ذلك الذي كان. الجندي العربي تطوّر بصورة مذهلة وأصبح واعياً للهدف الذي يقاتل من أجله، واعياً بسلاحه الذي يحمله وقادراً على استعماله بكفاءة عالية، وهو مثقّف ومفكّر وشجاع ومقدام، ولديه الاستعداد للتضحية دفاعاً عن الوطن وعن الأجيال القادمة. أما الجندي الإسرائيلي فلم يعد منضبطاً كما عهدناه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ولم تعد لديه تلك الشجاعة ولا الرغبة الجامحة في تقديم التضحيات. إسرائيل تدرّب جنودها وتبثّ فيهم الوعي، وتقوّي لديهم مشاعر الانتماء والالتزام، لكن الجو العام في إسرائيل لم يعد يتناسب مع متطلبات الحروب المظفّرة. الفساد منتشر في أجوائها، وحياة الرفاهية والتمتّع تنخر عظام الشباب والشابات. وقد كان لنا عبرة في حرب عام 2006، وحربي عامي 2008 و 2014 على قطاع غزّة. لم يتمالك جنود إسرائيل أنفسهم وولّوا هاربين من الميدان يستصرخون، وكذلك كان الأمر في غزّة. لم يستطع جيش إسرائيل التقدّم في غزّة مائة متر بسبب صلابة المقاومة وقوّتها وشجاعة المقاومين.
وإسرائيل لم تحسب عقيدة المقاتلين العرب. مقاتلو المقاومة في لبنان وفلسطين يقاتلون في سبيل الله وفق عقيدة إيمانية صلبة لا تهتز أمام ضخامة الدبابات ولا هدير الطائرات ولا دقّة التصويب. إنهم قوم يؤمنون بالله وبنصره، ويتمتّعون بشجاعة عزّت عن جيوش العالم. ألم يهزم نفر قليل من مقاتلي حزب الله جيش إسرائيل، وألم ينكفئ جيش إسرائيل أمام آلاف قليلة من مقاومي قطاع غزّة؟ ولنا عبرة في حرب 1973 إذ حارب جيشا مصر وسوريا بالجندي الذي واجه الدبابة وصمد أمام الطائرة وأسقطها. كانت تتفوّق إسرائيل على الجيوش العربية بالتقنية، لكن الجندي العربي تسلّح بما هو أعتى فوصل قمة جبل الشيخ واخترق القناة وكل تحصينات إسرائيل.
وتقرير إسرائيل الاستراتيجي لم يسأل: أيهما أقدر على تحمّل تبعات الحرب: المواطن العربي في لبنان وفلسطين أم أفرادهم الذين تضيق عليهم الأرض مع أول الرصاص؟
المصدر: الميادين نت
[email protected]
أضف تعليق