"فليحيا ذكر الحجار.. يللي عمّر هذي الدار" ما زال الصبي يذكر تلك الأهزوجة التي تختتم صف السحجة من باب الدير الى فناء كنيسة القديسين بطرس وبولس، وهناك في شوط الختام، يزداد الحماس اشتعالا في أكف وأصوات الشباب والرجال، فتلتهب الأكف وتنطلق الحناجر بقوة "فليحيا ذكر الحجار.. فليحيا ذكر الحجار" وتعتمل الأسئلة في ذهن الصبي. من يا ترى يكون الحجار؟ ولماذا هذا الهتاف الحار باسمه؟ ولماذا يحيون ذكره بهذه القوة والافتخار؟ يعود الى البيت باحثا عن اجابات شافية، ويسأل هنا وهناك لكن المعلومات شحيحة. كان مطرانا متميزا، هو الذي بنى الكنيسة، بنى المدرسة، مات بحادث سير مروع وهو شاب. هذا جلّ ما التقطه عن المطران الحجار. وبعدما غابت السحجة من أفراحنا، كاد اسم الحجار يغيب مع تغير عوامل الزمان.
ومرت السنوات وكبر الصبي مع أبناء جيله.. وفي منتصف ثمانينات القرن الماضي، ينهض باحث شاب نشيط يدعى جوني منصور، ويصدر كتابا يكشف فيه غبار الزمان والنسيان عن سيرة المطران الحجار، وأعاد اصداره العام الماضي برؤية جديدة، هذا الكتاب الذي أضاء على تاريخ هذا الرجل العظيم. وفيما بعد أطلقت بلدية شفاعمرو اسم الحجار على أحد شوارعها المركزية عرفانا بدوره واحتراما لتاريخه، كما فعلت ذلك بلدية حيفا ومجلس كابول المحلي، بانتظار أن تحذو حذوهم سائر سلطاتنا المحلية العربية.
وربما يكون أجمل ما في الحجار أنه "جمع كأحلى ما يكون الجمع بين الدين والدنيا" كما يقول الأستاذ الياس جبور جبور، ويضيف مؤرخ شفاعمرو أن محبة خاصة ربطت بين المطران حجار وشفاعمرو حيث " كان يكنّ لهذا البلد الطيب الأمين كلّ مودة واعتزاز.. وكانت علاقة شفاعمرو بالحجار علاقة متميزة وخاصة". لذا كان حزن شفاعمرو على هذا المطران حزنا خاصا ومميزا، عكسه شاعر شفاعمرو المرحوم الأستاذ ابراهيم بحوث في قصيدة رثاء نطقت باسم كل شفاعمري، بل كل عربي في الديار حيث قال:
إن ماتَ من صدمةٍ فالكلّ مصطدمٌ فؤادُهُ والأسى في النّفسِ يبريها
عكا شفاعمرو حيفا والجليل دوّى للحزنِ نعياً فقاصي الأرضِ دانيها
وللـــحيــاةِ مـــآسٍ إذ توزعـــــها وفقدُ حجّــــارنا كبرى مآسيها
واذا كنا الليلة ننصف انسانا مميزا وعلما من أعلام الكنيسة والوطن، فانه واجب علينا أن ننصف انسانا آخر مميزا وعلما من أعلام الكنيسة والوطن، انه سيادة المطران ايلاريون كبوجي، مطران القدس سابقا الذي غيبّه الموت في المنفى الأسبوع الماضي، بعد حياة حافلة بالنضال والمواقف الملتزمة والالتصاق بقضايا الانسان والشعب أمام الظلم والقهر والاضطهاد، كما كانت حياة المطران الحجار. أسقفان جاءا من بلاد الشام الى فلسطين حين كانت بلادا مفتوحة دون حدود مصطنعة، جاء كبوجي من حلب الشهباء التي نفضت عنها غبار التكفير والارهاب مؤخرا وعادت الى أحضان الوطن، والحجار الذي قدم من الجنوب اللبناني المتعمد بالانتصارات والبطولات ومقاومة الغزاة عبر التاريخ. اسقفان حضرا الى فلسطين فحضرت فلسطين في قلبيهما وضميريهما، فحملا قضيتها ومعاناتها طوال خدمتهما وأيامهما الأرضية. طوبى لكنيسة ينبت في حديقتها العامرة وتثمر فيها مثل هذه الأشجار الباسقة التي لاتموت مع الزمن بل تزداد اخضرارا وعطاء، وطوبى لشخصيات خدمت وأعطت دون حدود وتجد شعبا ومؤسسات تكرمها وتنصفها.
الحجار مسرحية من فصل واحد تلخص لنا مسيرة "مطران العرب" المطران غريغوريوس حجار، اللبناني الأصل والفلسطيني الهوى والموقع والموقف، الذي تولى سدة أبرشية الجليل للروم الكاثوليك مع أواخر فترة الاستعمار العثماني وفترة خلفه الاستعمار البريطاني لفلسطين.
مسرحية "الحجار" ليست مسرحية فقط بل هي رسالة كما يقول معدها ومخرجها حنا عيدي، ومن هنا أهميتها والحكم عليها. وهي مسرحية تعتمد على ممثل واحد يقوم بالأدوار ويتلبس الشخصيات يتحرك وكأنه مجموعة ممثلين، ويبرع في تقمص شخصية الحجار فالشكل والهيئة والصوت تساعد الفنان المخضرم والقدير لطف نويصر حتى نكاد نتخيل الحجار نفسه يقف أمامنا ويخاطبنا.
(نص الكلمة التي ألقاها الكاتب في أمسية عرض مسرحية "حجار العرب" في شفاعمرو، الاثنين 9/1/2017)
[email protected]
أضف تعليق