تحتاج القراءة المتأنّية للمشهد السوري ما بعد الاتفاق الثلاثي التركي - الروسي - الإيراني، إلى مزيدٍ من التأمّل والتعقّل في ظلّ إصرار هذه الترويكا السياسية المستجدة على إعلاء شأن كلمة "الحل السياسي"، وجعلها فوق أي اعتبار يدور في مخيّلة الفرقاء والحلفاء. لكن في المقابل هناك تعقيدات ميدانية وسياسية تُطِل برأسها لتفرض نفسها في ميدان الحل كل حين.
ومن هذه التعقيدات الميدانية على سبيل المثال لا الحصر :
نفوذ "جبهة النصرة" أو "جبهة فتح الشام" كما باتت تُسمّي نفسها على الأرض ، ف"أميرها" الجولاني على الرغم من ابتسامته العريضة في كل إطلالة متلفزة له، لم يبتسم له الحظ الدولي أبداً برفع اسم "فصيله" المُدرَج على قوائم الإرهاب، ولم تصغِ الدول العربية والإقليمية وحتى الغربية لمضمون بيانه الهزيل حول فك الارتباط عن تنظيم القاعدة، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لايزالان يعتبران هذه الجبهة إرهابية، وذات أثرٍ خطير في زعزعة الأمن والاستقرار في سوريا ودول الجوار .
أما المعارضة السورية المتمثّلة بـ "الائتلاف والهيئة" فإنها لم تحسم أمرها بعد في خيارات الإدراج لإرهاب الجبهة على الرغم من الإحراج الذي تسبّبه لها من خلال سيطرتها على إدلب ريفاً ومدينة، ناهيكم عن مناطق أخرى في ريف حلب وحماه ودرعا ودمشق، وما قاله أحمد الجربا، رئيس تيّار الغد السوري والرئيس الأسبق للائتلاف من القاهرة، قبل أيام خير دليلٍ على ذلك حين رحّب بـ "اتفاق وقف إطلاق النار" الموقّع، وأظهر مخاوفه المنطقية من قدرة الفصائل المسلّحة الموقّعة على ضبط الوضع على الأرض في ظل تبعية تلك المناطق التي يشملها الاتفاق ويُسميها لعناصر "جبهة النصرة" الرافضة لهذا الاتفاق.
وإذ تحمل تصريحات صنّاع القرار في أنقرة يومياً كل جديدٍ ومفيد حول الهدنة، لا يخفي المسؤولون الأتراك حرصهم على ضرورة الفصل والقطيعة بين عمل الفصائل المسلّحة "المعتدلة" و"جبهة النصرة"، لأن قوات الجيش الحر المنضوية تحت مُسمّى عملية "درع الفرات" المدعومة تركياً، باتت خالية الدسم والزخم من المواجهة مع جيش النظام السوري، وأصبح ديدنها هو تقديم أوراق اعتماد دولية مُجدّداً حول مكافحة الإرهاب والحرب على داعش فقط، وما سحب البساط من تحت رجل رياض حجاب المنتهية ولايته كمنسق عام للهيئة، وجلب الفصائل المسلّحة للجلوس مع الروس ومن خلفهم الحكومة السورية في مؤتمر آستانة الموعود إلا علامة فارقة لتفاصيل المرحلة المقبلة سياسياً وعسكرياً في سوريا.
ولن ننسى مطالعة ترنّح الهدنة في سوريا على وقع الخروقات المستمرة في وادي بردى وغيرها من المناطق، وكذلك حسابات طهران الرافضة لخروج مقاتلي حزب الله من سوريا بُعيد تصريحات هنا وهناك، تفيد بأن موسكو تعهّدت بذلك لأنقرة، ومسارعة مسؤولي النظام السوري إلى نفي المضامين والعناوين لتلك التصريحات، والتأكيد مرة أخرى على أن تلك العناصر وغيرها، موجودة بدعوة رسمية من حكومة شرعية لها مقعد حاضر في الأمم المتحدة على حد زعمهم، وأن المساواة بين تلك الميلشيات وغيرها من وجهة نظر المعارضة السورية أمرٌ من محض الخيال ومرفوضٌ جملةً وتفصيلاً.
وفي معايير الربح والخسارة بعد كارثة حلب، تبقى مسألة "رحيل الأسد" سياسياً من أعقد المعضلات، لأن الوتيرة التصاعدية لذكرها من قبل بعض المعارضين السوريين توقفت، وجنيف 4 الذي دعا إليه دي مستورا في شباط/فبراير سيبقى حبيس التفسير والشرح لهذه النقطة التي أفشلت من قَبْلُ جنيف 2 و 3، ووسّعت الخرق على الراتق الدولي والواقع التفاوضي بين الوفود المشاركة آنذاك. فأي جديدٍ في جعبة الترويكا والدول الغربية والعربية حوله مروراً بالمفاوضين، ومن المؤكّد كما هو معلوم أن مصير الرئيس السوري ليس مطروحاً على طاولة التباحث والتفاوض اعتماداً على بيانات الخارجية الروسية المتكرّرة.
وبناء على ما ذُكِر فإن المنجز والموجز سورياً ودولياً حتى اللحظة بحاجة لوضوح موقف دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الجديد، الذي يلفّه الغموض والجمود حيال الأزمة السورية المُستعصية على الحل سياسياً وعسكرياً خلال السنوات الماضية.
المصدر: الميادين نت
[email protected]
أضف تعليق