هل هناك أخصائي نفسي ما نصح النظام الحالي بأنها الوسيلة الناجعة لـ"قصقصة ريش" المجموع الذي كان قد اكتسب ثقة في نفسه منذ حوالى ست سنوات؟
أحيل القارئ إلى فيلم قصة "إحسان عبد القدوس" وبطولة محمود ياسين وسعاد حسني، وإخراج عاطف سالم، بعنوان "أين عقلي؟". تدور أحداث الفيلم حول بطل يعاني من عُقَد ومرض نفسي، ويريد أن يؤثّر على زوجته ويوهمها بأنها هي من تعاني من مرض نفسي، حيث يوحي إليها بأنها أتت بأفعال لا تذكرها، وقالت أشياء لم تقلها، ويضعها طوال الوقت تحت ضغط نفسي وشكّ في ذاتها وقدراتها العقلية.
في البداية كان الإنحناء لعاصفة الثورة، والمداراة، والمسايسة. ثم العلاج بالصدمة: واجهوا الإسلام السياسي وحدكم. حتى يتم دفع الناس دفعاً للاستنجاد بالنظام القديم. ثم التشكيك في كل ما قام به الناس، تشكيكهم في أنفسهم، في تحرّكهم، في أغراضهم: كل ما كان مجرّد مؤامرة دنيئة، وقد تم استغلالكم، أنتم بلهاء، تحتاجون إلى من يعرف أكثر منكم، لمن يرشدكم، لستم أهلاً للحُكم على الأمور. ثم ممارسة بعض الأفعال واتّهام الناس بأنهم يمارسونها:
التشكيك في الناس ثم التساؤل: ليه التشكيك؟ أنتم ليه على طول شاكين ومتشكّكين؟!
و"قولوا لي أنا أسأت لمين"... بمنتهى البراءة! حتى يظنّ الناس أن هناك خللاً ما في عقولهم.
وأخيراً، تم عقد اتفاقية لتسليم جزيرتين مصريتين، مات على ترابهما آلاف الشهداء، للمملكة العربية السعودية.
وهذه ليست المشكلة الحقيقية، المشكلة الحقيقية أن أبواق النظام استخدمت أسلوباً يثير الهلع في إثبات سعودية الجزيرتين: “تاريخياً الجزيرتان سعوديتان"! تا.. إيه؟ تا... شو؟ تا... شنو؟ تا... إيش؟ تا... ماذا؟ تاريخياً؟
هذه مصر. يبدأ التاريخ بمصر... ويبدو أنه سينتهي بها، لأن بسبب ما يحدث الظاهر حنقوّم القيامة على البشرية. حمل أحد المتظاهرين لافتة كتب عليها: رجعت للتاريخ عشان أثبت أن الجزر سعودية ما لقتش السعودية نفسها. ثم القبض على مَن يقولون بمصرية الجزيرتين... وهذه ليست المشكلة، المشكلة اتّهام مَن يقول بمصرية الجزيرتين بالخيانة الوطنية!
بصرف النظر عن كون الجزيرتين مصرييتين من عدمه، حين أصحو من النوم لأقرّر مثلاً أن باريس تدخل في حيّز الأراضي المصرية.. هل هذا يعني أنني خائنة للوطن؟ هل أستحق الحبس على هذه المقولة حتى لو كانت باطلة أو تنم عن خلل عقلي؟
بعد أن حكمت المحكمة الإدارية بمصرية الجزيرتين، تم تحويل الاتفاقية للتصويت عليها في البرلمان! وما نعرفه هو أن الاتفاقيات – بشكل عام – يتم عرضها على البرلمان قبل توقيعها والالتزام بها أمام طرف آخر، ثم عرضها للاستفتاء، أما أن يتم توقيع اتفاقية بشأن التفريط في أراضٍ مصرية، وبعد التوقيع عليها والالتزام بها، يتم عرضها على البرلمان،خاصة بعد حكم قضائي بمصرية الجزيرتين، فهذا مالا نفهمه حقاً. بالمناسبة هذا البرلمان لا يمثل أغلبية الشعب المصري، لسبب بسيط، أن الإقبال على الانتخابات البرلمانية كان هزيلاً هزالاً غير مسبوق ولا حتى في فترة حكم مبارك.
الأغرب، أن الانتخابات البرلمانية لاقت هجوماً حاداً من مؤيّدي النظام، بل إن بعضهم ذهب بنظرية المؤامرة إلى أن البرلمان هدفه تعطيل الرئيس، وتقييد يده، وتكبيل حريته في التصرّف فينا كيف شاء، وأن الأمر برمّته من تخطيط جماعة الأخوان المسلمين، وأنهم يهدفون للسيطرة على البرلمان. ومن ثم، فلم يشارك مؤيّدو النظام في التصويت على البرلمان لأنه مؤامرة على الرئيس، كما أنه لم يشارك معارضو النظام لأنهم يشعرون بأن الأمر هو مجرّد مسرحية هزلية، ولم يشارك أغلب الناس غير المسيّسين في الانتخابات لأنهم مشغولون بفغر أفواههم في تيه وذهول. وهذه ليست المشكلة.
المشكلة أنه هناك تسريبات بشكل دوري تتناقض مع بعضها البعض: البرلمان سيصوّت بالرفض على الاتفاقية...وهذه هي التعليمات... لا... البرلمان سيصوّت على قبول الاتفاقية وهذه هي التعليمات... لا... البرلمان سيؤجّل التصويت. طيّب... لماذا تلعبون في عقولنا البخت وتفتحون المندل وتخطّطون الرمل؟ لماذا؟ هل الأمر يحتاج إلى كل هذا الإجهاد والإرهاق والمشاحنة؟
جزيرتان في زمام الحدود المصرية، حارب عليهما المصريون، ومتمسكون بهما شأن كل شعب يتمسك بأرضه. لماذا نمنحهما لأي أحد بصرف النظر عن الخرائط والمراسلات والمهاترات؟ هل سمعتم عن بلد في هذا الكون الفسيح يتنازل طواعية عن قطعة أرض بلا مقابل سواء كانت ملكاً له أم لم تكن ملكا له؟ ويخرج علينا ممثل الحكومة في المحكمة ليقول بملء فمه: مصر كانت تحتل الجزيرتين!
طيّب حتى الاحتلال لا يتنازل عن أراض من دون مقاومة شعبية على الأقل. يقول وزير الدفاع الإسرائيلي يعلون بأن موافقة مصر على التنازل عن الجزيرتين تم "بإيعاز" من إسرائيل، ثم أشار في لهجة صفيقة قائلاً: ثم إن مصر ستحصل على 16 مليار دولار مقابل تنازلها هذا! طيّب ولماذا لا تحصل أنت على 50 مليار دولار وتتنازل عما سرقت من الأرض؟ هل نحن مرتزقة نبيع قطعاً من لحم أراضينا في مقابل المليارات؟ هكذا تنظر إلينا دولة الكيان الصهيوني التي احتلت أرضاً ليست ملكاً لها ولا ولن تتنازل عنها ولو خيّرت بينها وبين كنوز الدنيا؟
نحن الآن جميعنا يقع تحت ضغط نفسي هائل بسبب انتظار تصويت البرلمان، هناك من قرّر أن يريح نفسه ويفقد الأمل ويتعامل مع الأرض بأنها راحت وينصب العزاء مبكراً، وهناك من قرّر أن يتشبّث بالأمل ويحدّث نفسه: لا أكيد.. غالباً... يمكن... أن يصوّتوا بالرفض... وهناك من يتأرجح بين القنوط والرجاء. وكلنا يشعر بالعجز بالرغم من أننا سلكنا السبل القانونية، وقطعة من لحم مصر مهدّدة بأن تُستأصل ونحن لا نصدّق أنفسنا بأننا نرفع قضية على الحكومة كي لا تستأصل ما أقسمت على صونه.
مجدداً تم القبض على من شعروا بالغضب من إعادة تهديد أراضيهم فنزلوا بشكل عشوائي للاعتراض. في الواقع نحن لا نعلم كيف ستدوّن هذه الفقرة من حياتنا في كتب التاريخ. "وكان المصريون في ذهول تام"، أم سيكون عنوان الفصل: "مقدمات أدّت إلى فقد المصريين عقولهم" ثم يبدأ الفصل: لم يكن المصريون مختلّين عقلياً طوال الوقت كما هم الآن، وإنما كانت هناك عوامل تاريخية وسياسية وسوسيوجغرافية أدّت إلى تدهور القوى العقلية لهذا النسل حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن، منها:..”
حسبنا الله ونِعم الوكيل.
[email protected]
أضف تعليق