احتفال اللبنانيين بعيد ميلاد السيّدة فيروز يحمل من الدلالات ما هو أبعد من محبّة الناس العارِمة لِمُبدعةٍ غدت موضعَ إجماع في بلد عزَّ فيه الإجماع. فمثلما كان صوتها رفيقَ العُشّاق والحالمين على أسرّة الأشواق وشرفات الحنين، ظلَّ كذلك زمنَ الحروب والتقاتل. فَكَان أنيسَ الخائفين والمُستوحشين في عتم الملاجىء والخنادق، وصوت المقاومين للخراب والاحتلال على السواء، ومَن ذَا الذي ينسى "تراب الجنوب المشغول بقلوب"، و"ارجعي يا بيروت بترجع الأيام" و"الغضب الساطع آتٍ" و"بالغضب مسوَّر بلدي"، وغيرها العشرات من أغنيات ومسرحيات حفظناها عن ظهر قلب ذخيرةً لأيام آتية وتميمة طاردة للقنوط والكآبة.
ها هو عيد ميلادها المُتزامن وذكرى استقلالٍ لم يكن يوماً ناجزاً، يغدو علامة أمل في زمن التشظّيات العربية والتصدّعات الأهلية المُفكِّكة للنسيج الوطني والاجتماعي، وفي ظلِّ زوابع الفِتن والشِقاق العاصفة بعواصم ومدنٍ غنّتها فيروز بأجمل ما يكون الغناء. فتحوّلت تلك الأغنيات بمثابة أناشيد وطنية لبلدان غارقة اليوم للأسف في الدّم والدموع بفعل مشاريع التفتيت والتجزئة وخرائط النفوذ المرسومة بالدماء والأشلاء.
بهذا المعنى، وفي هذه اللحظات الحرجة من تاريخ العرب يغدو للإجماع على محبة رمز كبير كالسيّدة فيروز قيمةً مُضافةً ومعنى مُضاعفاً، إذ أن صوتها الكاسر لِحدّة الاصطفافات والانقسامات يُقيم جسراً من مجاز المعنى يتلاقى عليه عشَّاق أغنياتها التي رافقت أجيالاً مُتتالية على مدى عقود حافلة بالأحداث المصيرية والتحوّلات الجِسام، وكانت على الدوام تغنِّي واقع الحال من دون الوقوع في خطابيةٍ مُبتذَلة أو شعاراتيةٍ مجانية. حتى أغنياتها التي ارتبطت بمناسبة أو حدث، تجاوزت مناسبتها لِتُناسِب كلَّ حين.
ليس هيناً ولا قليلاً أن يحظى صوت مُغنية بمثل هذه الهالة من الحُبّ والاحترام اللذين يصلان_عند البعض_حدود التقديس، علماً أن صاحبته كسرت الصنمية والتقديس حين سلَّمت "أمرها" ومجدها كله لِنجلها المُبدع المُشاكس "المجنون"، وخاضت معه مُغامرة إبداعية خطرة. فقدَّمت بجرأة تُحسَب لها أغنيات مثل: كيفك أنت، مش فارقة معاي، مش كاين هيك تكون وسواها من أعمال "زيادية" جعلتها أكثر قُرباً من الشباب والأجيال الجديدة. ولِمَن يظنّ احتجابها عن المجتمع والنَّاس نوعاً من الصنمية والجبروت والتعالي، يمكننا أن نجزم له أن في هذا "الغياب" حصانة لإنسانةٍ هشَّة وَأُمٍّ معذبة، تركتْ لجمهورها العريض الواسع بلسمَ الغناء الشافي، ونأت بأوجاعها الشخصية خلف الأبواب الموصدة.
مع مُبدعة بحجم السيّدة فيروز ومكانتها الراسخة نكتشف مُجدّداً أن للذائقة العامة بوصلةً لا تحيد عن الاتجاه الصواب مهما بلغ المشهد الفني_الغنائي بشكلٍ خاص_من إسفافٍ وتدهور، ومهما ساهم إعلام السفاهة والرداءة في تسطيح الذوق وتزييف الوعي وإغراق المسامِع بما هبَّ ودبَّ من أصوات نشاز وكلمات ينتحل مُقترفوها صفة الشِّعر والغناء. فالفطرة الخام والسليقة العفوية قادرتان، متى جدَّ الجدّ، على التمييز بين الغثّ والسمين، والانحياز إلى ما يُحاكيهما ويُعبِّر عنهما وعن آمال الناس وآلامهم ومشاعرهم الفردية والجماعية، وهذا بالظبط ما فعله صوت فيروز على مدى ثمانين حولاً لم تسأم خلالها صاحبته ولم تكسل أو تتبلّد.
طبعاً لا يمكننا فصل الصوت عن صاحبته. هي ليست فقط صاحبته، بل صاحبة قول فصل في ما تغنّي وتنشد، ولن ندخل هنا في جِدال لا طائل منه عمّا إذا كانت حنجرة فيروز لِتحلِّق كما فعلت لولا الأخوان الرحباني وابنها زياد (من دون التقليل من أهمية ما قدّمه لها إلياس الرحباني وفيلمون وهبي ومحمّد عبد الوهاب وسواهم). لقد امتزجَ صوتُ فيروز بما غنّته من قصائد امتزاجَه بموسيقى الأخوين، وَزِدْ أنه_أي الصوت_قد أضاف من عنده إلى ما غنّى واغتنى به، حتى صار من الصعب، إن لم يكن من المُستحيل، تصوّره منفرداً. فالمثلث الذهبي الذي تشكَّل من فيروز وعاصي ومنصور يظلّ حالاً استثنائية في دنيا الموسيقى والغناء، إذ قلَّما ذابَ صوتٌ في موسيقى أو ذابتْ موسيقى في صوت مثلما حدث في هذه التجربة الفريدة النادرة. نترك للنقّاد والأكاديميين البحث والتحليل، ونقول حسبنا إن لنا منها زاداً مُباركاً ساهم في تشكيل وعينا وتأليف ذاكرتنا، ولا يزال بمثابة سنام نعود إليه كلما راودنا ظمأ إبداعي في صحارى الاستهلاك المعولم.
مكّة، القدس، بيروت، دمشق، بغداد، القاهرة، عمَّان، الجزائر، تونس، بكل ما تعنيه هذه المدن وما تمثّله في الوعي والوجدان غدت أكثر سحراً وجمالاً بصوت سيّدة لم تغنِ يوماً لِحاكم أو لِظالم بل كانت على الدوام صوت المحكومين والمظلومين والمتمرّدين والثوّار من جميلة بوحيرد إلى صبحي الجيز، ومن مكّة وأهلها الصِّيدا إلى قدس المدائن وشآم المجد، ودائماً من بيروت التي أزهرت جراحها في كلمات الشاعر جوزف حرب صلاةً في ليل الملاجىء ووحشة الحروب ووحشيّتها.
ما اكتظتْ به وسائل التواصل والميديا الحديثة في ذكرى ميلادها الحادي والثمانين لا يؤكّد فقط المكانة الراسخة لفيروز في الوجدان الجمعي، بل يثبت مرة أخرى أن الفنَّ الحقيقي يحفر عميقاً في تُربة الوعي لأنه خير مُعبِّر عن الإنسان ومكنوناته. المكنونات التي تتمازج فيها المشاعر والأحاسيس، من حال وَجْدٍ بين حبيبين إلى حال عشق بين مقاوِم وتراب بلاده، وسواها من حالات روحية وشعورية ونفسية حملتها حُنجرة فيروز وحلَّقت بها في الأعالي أو غاصت بها إلى الأعماق. فما احتفال اللبنانيين بنجمتهم العالية سوى تأكيد إضافي على أن الفن ليس ترفاً ولا من الكماليات ولا مُجرّد شهرة فارغة وأضواء زائلة، إنما هو مكوِّن عضويٌّ من مكوِّنات الوجودالإنساني، وكل المجتمعات التي ترذل الفنون أو تحرِّمها هي مجتمعات مأزومة لأنها تهمل عنصراً جوهرياً من عناصر الوجود، ولا نبالغ حين نقرأ في احتفال اللبنانيين بسيّدة غنائهم ومعهم شرائح واسعة من العرب، علامة مُضيئة في زمن الظلام، وانحيازاً للمعرفة والتنوير ضدّ التجهيل والتكفير، وانتصاراً لثقافة الحياة الحقّة على ثقافة القتل والذبح والتدمير.
فما غنّته السيّدة فيروز وأنشدته على مدار عمر من التوهّج والعطاء لم يكن غناءً عادياً من ذاك الذي يمرّ مرور الكِرام، بل كان حفراً في الوعي وتأسيساً للوجدان وترسيخاً لِقيَم سامية نبيلة وإعلاءً لشأن الحُبّ والحرية والعدالة والثورة والمقاومة والحق المشروع في استعادة الأرض من المُحتل الغاصِب، ولا يُظنن أحدٌ أن صوت فيروز مجرّد حامِل أو ناقِل لما غنّت صاحبته. إنه شريك في إعادة صوغه (للموسيقى وللشِّعر) وتقديمه بشكل آسر نفَّاذ، تماماً كإيمان صاحبته بما غنّت وقدَّمت على مسرح عمرٍ لم تكن دروبه دائماً مُعبَّدةً بالورود، بل أحياناً كثيرة بالأشواك.
لئن كان الشهداء يحرسون الحياة بأرواحهم ودمائهم الزكيّة. فمَن يحرس التضحيات والأحلام من الضياع والنسيان في بلاد مُصابة أصلاً بمرض فقدان الذاكرة سوى المُبدعين المُلتزمين الذين يحرثون تُربة العقل والقلب، ويغرسون كلماتهم وَرْداً للشهداء والعشَّاق والواقفين عند ناصية الحلم لِيقاتلوا.
هل نغالي في وصفنا فيروز بالمُقاتلة؟ الذي يعرف ما بذلته وعانته وعاشته تلك السيّدة المُكلّلة بالمجد لن يستغرب الوصف. ما عليه،الآن نودّ القول إن الاحتفال بفيروز يمثِّل في وجه من وجوهه توق اللبنانيين إلى وطن يشبه صوت مَن غنّته حتى صارت "السما قريبة"، وحنينهم إلى لبنان الأخضر الحلو، وقرفهم من الطبقة السياسية الحاكِمة ونفايات أزماتها المُتناسلة، والأهم أنه استعادة لقِيَم الفن الحقيقية، ولمعنى الغناء العميق، ولجوهر الكلمة السامية المُنطلقة من قلب حُنجرة، والأصحّ من حُنجرة قلب لتلامِس كل قلب، أنّى كان وأياً كان، المهم أنه قلب إنسان.
[email protected]
أضف تعليق