ألمني كثيرًا الاعتداء على معلم في إحدى مدارس في الجليل... ليس الألم النفسي هو المحدد للموضوع، إنما الألم الاجتماعي والوجع الإنساني الذي يصيبني في كل مرة اقرأ خبرًا حول عملية أو حادثة اعتداء على معلم أو على طبيب، أو استمع عبر وسائل الاعلام المسموعة إلى خبر مماثل... وليست الحادثة هذه الأولى وكما يبدو لن تكون الأخيرة في ظل الأجواء المشحونة والمتوترة التي يعيشها المجتمع العربي في الوطن... فظاهرة العنف متشعبة جدا، فمنها العنف الكلامي الذي يطال شرائح كثيرة يوميا، والعنف الجسدي الذي يتعرض له اشخاص من قطاعات عديدة في مشهد الحياة اليومي: عنف ضد الأطفال، والمرأة والمسنين والمقعدين والرياضيين... وعنف من طرف رجال سياسة وشرطة وغيرهم... لكن الأصعب والأقسى أن يقوم ولي أمر طالب ولأي سبب كان بالاعتداء بالضرب على معلم في مدرسته، بل في المدرسة التي يتعلم فيها أبنائه.
الاعتداء على معلم هو خط أحمر في المفهوم التربوي والأخلاقي والإنساني قبل ان يكون خطأ أحمرا في المفهوم القانوني والعقابي... تسديد ضربات ولكمات لمعلم يقوم بتربية أبنائنا مهما كان السبب هو عينه الاعتداء على مشروع التربية والتعليم في مدارسنا... وبطبيعة الحال، أي خطوات استنكارية واحتجاجية يتم إقرارها وتنفيذها بهذا الخصوص لن تكون كفيلة برد الاعتبار إلى المعلم، ولا إلى مدرسته... وحتى لا أُفهم بأني أضع العقبات أمام مشروع تصالحي أو إصلاحي، فإنني اعتقد أنه اصبح لزاما على مجتمعنا إخراج عيونه من مآقيها والنظر إلى الذات، وما يجري ويحدث في مجمل مشهدنا الحياتي اليومي... وخصوصا حالة جهاز التربية والتعليم في مدارس ومؤسسات قرانا ومدننا العربية..
يسود شعور في أوساط واسعة من الأهالي بتردي حالة هذا الجهاز، بالرغم من ضخ ميزانيات أفضل من السابق سواء من طرف وزارة التربية والتعليم أو الحكم المحلي. لكن الظروف العامة المحيطة بالمؤسسات التربوية، ونعني هنا على وجه الخصوص المدارس، في حالة تردي متواصلة من حيث السلوكيات والتعامل واحترام الحيزات الخاصة والعامة...
ومن جهة أخرى، فإن ظروف عمل المعلمين اصبحت لا تطاق في ظل مشاريع تسميها وزارة التربية والتعليم بالمشاريع الاصلاحية كـ "أفق جديد" و "قوة للتغيير"، حيث أن المعلم قد تحول إلى سجين بل اسير في المدرسة من الساعة الثامنة صباحا وحتى الرابعة بعد الظهر. وعلى المعلم أن يقوم بمهام كثيرة دون ان يتمتع بحرية التعليم والتصرف والابداع. لقد جعلت هذه المشاريع من المعلم آلة مبرمجة من قبل وزارة التربية والتعليم. وعليه ان يقوم بتنفيذ مهام محددة، دون الأخذ بعين الاعتبار أن وظيفة المعلم اكثر من مجرد وظيفة محددة المهام، إنها التعاطي مع الانسان بكونه طفلا ينمو ويكبر بالجسد والعقل والروح والنفس... وتم سن مجموعة من الانظمة والقوانين التي تشبه السيف القاطع المسلط فوق رؤوس المعلمين في حال عدم قيامهم بهذه المهمة أو تغيبوا عن اجتماع ما. ويتم قياس عمله بالساعات والدقائق، ويُهدد المعلم بخصم مبلغ من راتبه في حال عدم تنفيذه هذه المهمة أو تلك... في ظل هذه المشاريع الاصلاحية تطغى على المعلمين حالة من التآكل والترهل واللامبالاة شبه التامة مما يجري لطلابهم او لمدرستهم، ما داموا يقومون بتأدية عملهم المبرمج. وعمل المعلم ليس التربية بحسب هذه المشاريع الاصلاحية إنما تعليم مواد مقررة لينجح الطالب وتحقق مدرسته أكبر نسبة من النجاح ويتم نشر خبر عنها في مواقع استهلاكية ليس إلا. بمعنى آخر، تعليم بدون جوهر وبدون تربية. علما ان التعليم هو عينه الحرية في التفكير والتدبير والتعاطي مع حالة تربوية وتعليمية. وارجو ألا يؤاخذني معشر زميلاتي وزملائي المعلمين والمعلمات إذا كنت قاسيا في جوانب معينة، فالألم والوجع واحد...
في ظل هذه الحالة من الترهل الحاصلة في جهاز التعليم وفي ظل حالات التوتر المجتمعي تتحول المدارس إلى ميادين للأجواء المشحونة التي سرعان ما يشتعل فيها فتيل الصراعات والنزاعات بين الطلاب. وكمتفحص بدقة لهذه الأجواء في عدد من المدارس في الجليل والمثلث وبعض المدن المختلطة، تبين لي أن صراعات القرية ونزاعات المجالس المحلية وخلافات داخل الائتلاف المحلي وصراعات ومشاجرات عائلية هي البوصلة التي توجه الطلاب في ميادين المدرسة إلى الاصطراع فيما بينهم. بمعنى آخر، تنتقل الخلافات والمشاحنات من ازقة وطرقات القرية إلى المدرسة. وقد لا تنتهي النزاعات في المدرسة، بل تستمر بزخم قوي وبوتيرة اعلى في القرية بعد انتهاء الدوام الرسمي بين الطلاب وشرائح اخرى من خارج المدرسة.
في ظل هذه الأجواء العنيفة لا يمكن ان تتشكل عملية تربوية وتعليمية جادة تعمل على بناء مستقبل طلابنا. ولا يمكن لمثل هذه الأجواء ان تساهم في تعزيز دور ومكانة المعلم.
ومن جهة أخرى، فإن استمرار عملية تآكل وظيفة المعلم والاثقال على كاهله وتهديده المستمر من صاحب العمل أو مدير المدرسة بالفصل والخصم حينا، والتأنيب واللوم حينا آخر، كلها تدفع المعلم وبالتزامه السكينة إلى تبني "ادوات العقاب الصامت". ومن بين هذه الادوات، غيابه بوتيرة اكبر، واهماله لتوجيه الطلاب، ورفضه القيام بأي مبادرة خلاقة في مدرسته ترفع من معنويات طلابه، وقياسه عمله بما يتقاضاه من راتب، أو قياسه عمله بما يتلقاه من معاملة، وغير ذلك ...
ولم تجر إلى يومنا هذا عملية مسح شاملة لمكانة المعلم العربي، ولمعاناته الشديدة التي تقض مضجعه صباح مساء. في أحسن الأحوال عندما تعالج قضية لا تصل إلى حل نهائي، بل تكنس تحت السجادة.
فالمطلوب من القيادات المجتمعية والتربوية والسياسية النهوض من السبات العميق المهيمن على عقول ونفوس الكثيرين بأن مدارسنا بألف خير... مدارسنا ليس بخير واحد... هذا ما يفرضه امر الساعة لمعالجة حالة المعلم قبل معالجة حالة التعليم. معالجة مكانة المعلم وكيفية التعامل معه بمستوى الاحترام الذي يليق بمهنة بل رسالة التعليم... لا يمكنني فهم كيفية قيام ولي أمر بضرب من يعلم ويربي ابنه؟ هذه قمة الفساد الاخلاقي التي وصل إليها مجتمعنا... كما أنني لا افهم ولا اتقبل كيف يمكن لشخص ما الاعتداء على طبيب أو طاقم طبي يعالج قريب له...
لهذا، لا نريد ذرف الدموع على حليب انسكب، بل نريد ان نعالج الحالة بعد ان شخصناها جيدا، لنخرج بنتيجة أن حالة التعليم والتربية ليست في افضلها بالمرة، بل علينا الاسراع في توفير العلاج الدواء اللازمين. كما أن على وزارة التربية والتعليم والنقابات التمثيلية للمعلمين الاستيقاظ من سباتها لانقاذ ما يمكن انقاذه من هذا الجهاز، قبل ان يصبح الأمر صعبا واكثر تعقيدا. فهل سيتعظ المجتمع من بيت الشعر " قم للمعلم وفّه التبجيلا" لأحمد شوقي؟
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
سلام لك وعليك استاذي ومعلمي العزيز.. خوفي ان لا حياة لمن تنادي