كيف تستحيل النكتة إعصاراً؟ فقط أنظروا إلى أميركا. يوم أعلن دونالد ترامب ترشحه للرئاسة الأميركية أواسط العام 2015 وصفت فعلته بالنكتة، لم يكن أكثر المتشائمين من أصحاب نظرية النكتة ليعتقد أن الملياردير المثير للجدل سيتخطى حاجز الانتخابات التمهيدية في الحزب الجمهوري. كبرت النكتة، أصبحت مقطعاً ساخراً، وأخيراً تحولت إلى مسرحية.

ترامب، الرجل الذي صوّره إعلام بلاده على أنه سفيه أصبح رئيساً لأقوى دولة في العالم، هكذا جرّدت أميركا نفسها من الهيبة التي طال بناؤها، خلعت آخر أوراق التين وبدأت تهرول عارية وسط مليارات البشر ممن شهدوا فصول مسلسل ترامب ومنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون التي يمكن القول إنها بنت لخصمها فوزاً كبيراً بيدها. ترامب رئيسا لأميركا، أي زمن هذا؟

من اليوم فصاعداً لن يكون رئيس الولايات المتحدة مختلفاً عن رؤساء دول صنع منهم الإعلام الأميركي أضحوكة. سيجهد الإعلام نفسه لتلميع رئيسه، لبناء هيبته، لكنه هذه المرة لن ينجح لأنه خلال أشهر الحملة الانتخابية وبناء على وهم التأثير الفوقي ظن أن حملاته ستنجح بإسقاط الرجل القادم من خارج المؤسسة السياسية، لكن هيهات. لم تكن الانتخابات هزيمة لوزيرة الخارجية السابقة فحسب، إنما للإعلام السائد والمؤسسة السياسية والنخب الثقافية والفنية والرياضية، كلهم معاً سقطوا في مواجهة رجل واحد مثّل لجمهوره الشعبوي رمزاً وهوية وعنواناً لمرحلة جديدة ستسمّى في يوم من الأيام بعصر اليمين.

لم يعد الأمر سراً، نعم العالم يتجه يميناً، وفي هذا تكرار مقيت لعصر سابق تنامت فيه مشاريع عرقية وقومية وأثمرت في نهاية المطاف حروباً أفنت عشرات الملايين من البشر. إنه زمن القوقعة، الأسوار ترتفع في وجه كلّ آخر والقلوب كذلك لا تتقبل سوى ما يشبه الملوّن على جدرانها والمعلّق على أبوابها. قبل سنوات بدا اليسار وكأنه يغزو العالم مجدداً، اليسار المعتدل في أوروبا، والثوري في أميركا الجنوبية، حتى في أميركا الرأسمالية حُسبت حالة أوباما على اليسار، حتى بشرت بعض وسائل الإعلام بأن لليسار قاعدة تبدو للوهلة متجهة نحو الأعلى، هكذا كان الحال حتى ظهر ترامب الذي مثّل بحسب بعض مؤيديه "صحوة اليمين".

لكن صحوة اليمين لم تبدأ مع ترامب، هي عملية تحول يائس استمر لسنوات طويلة واستهلك شعارات قومية وعرقية وطائفية من أميركا وحتى الفيلبين، في أوروبا وفي أميركا اللاتينية، وحتى في بلادنا حيث لا اليسار يساراً ولا اليمين يميناً.
اليمين الصاعد في بلدان أوروبا هو شكل من أشكال الترامبية المقنّعة. الإستفتاء على الخروج من الإتحاد الأوروبي في بريطانيا هو أفضل تجلّ لها. طلقت بريطانيا أوروبا كرمى لعيون متطرفيها الذين انكفأوا من خريطة لا تغيب عنها الشمس إلى بلد تكاد لا تشرق عليه. ناقضوا أهم وسائل الإعلام كلها كذلك، والأحزاب، والشخصيات، لم يرضخ من رأى في الخروج ملاذاً من السقوط الحرّ لمحاولات الإقناع، مجدداً تماماً كما حالة ترامب.

هؤلاء الذين أنجحوا الخروج من الإتحاد الأوروبي سيكونون شركاء الرئيس الأميركي الجديد، سيجلس ترامب إلى جانب تيريزا ماي البريطانية، ووزير خارجيتها بوريس جونسون، ومن يدري ربما تجلس معهم لاحقاً مارين لوبان الفرنسية، وينضم إليهم رؤساء حكومات هولندا والدانمارك وبولندا، وكل الذين يحسبون اليوم على هذا التيار الواسع الذي لم يوفّر من ارتداداته بلاد العرب. مجدداً هذا عصر اليمين، فلا عجب أن تهتز الأرض تحت أرجلنا ولا غرابة أن يتولى الحكم في غير مكان من يوصفون بالمجانين.
المصدر: الميادين نت

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]