لأن ذاكرة الكثيرين قصيرة، ليس بذنب اقترفوه، إنما لكثافة الأحداث وتواليها يوما إثر يوم، ولسعي مزيفي التاريخ إلى تبني أساليب التلفيق لدحر الحقيقة من ساحة التحدي، فإنّ مخيم تل الزعتر قد أصبح مَعْلَمًا وأثرًا بعيدًا زمنيًا، مع العلم أنّ المجزرة التي نفذتها القوات الانعزالية اللبنانية مدعومة من إسرائيل وجيوشها الاحتلالية وقعت في العام 1976 بحيث يندى لها الجبين وتعتصر لها القلوب. ولا نعتقد أنّها من الأحداث التي تُنسى. مجزرة رهيبة ذهب ضحيتها المئات من أبناء الشعب الفلسطيني خلال الحرب اللبنانية التي اختلطت فيها الأمور والأوراق... ودفع الشعب الفلسطيني الثمن ليس فقط في تل الزعتر، بل في مخيمي "صبرا وشاتيلا" وجسر الباشا ومخيمات أخرى... والمجازر التي تعرّض لها الشعب العربي الفلسطيني عبر التاريخ، وخصوصًا منذ بداية الصراع بين الحركة الصهيونية ثم اسرائيل مع العرب والفلسطينيين، كثيرة جدًّا، ومن ابرزها مجازر دير ياسين والصفصاف وعيلبون ... في 1948 ومجزرة كفر قاسم في 1956، ومخيم جنين وعمليات الاعدام الميدانية التي تقوم بها اسرائيل وغيرها...

هناك في مخيم تل الزعتر تعرّض سكانه اللاجئين إلى ويلات لم يُكتب عنها الكثير، ولم تتناقل وسائل الاعلام إلا القليل منها. وما تناقلته كان عبارة عن معلومات واخبار ضبابية ونتف من المعلومات. لكن الدكتور يوسف عراقي طبيب المخيم كان من بين القلائل الذين وثّقوا الحدث بتفاصيل دقيقة ومهنية مليئة بالمشاعر الإنسانية والأخلاقية التي يمتاز بها كإنسان وطبيب وفلسطيني. وجاءت عملية التوثيق بهذه الطريقة لتدمج بين الشخصي والمهني... فالطبيب يحمل رسالة انسانية واخلاقية ومهنية. ومتى وجد نفسه في الميدان فهو مجبر على القيام بواجبه الانساني والمهني مهما كلفه الأمر. وهذا ما نجده فعلا في نمط أطباء ذاك الزمن، الذين كان همهم القيام بواجبهم الذي يمليه عليهم ضميرهم الحي واليقظ. ونحن بطبيعة الحال، لا ولن نقلل من أهمية دور اطبائنا في الوطن وخارجه، بما يقدمونه من خدمات جليلة ومهمة للحفاظ على صحة أبناء شعبنا. والأمر الغريب هنا، أن طرق تعلم الطب موصدة أمام ابناء شعبنا في عدد من دول اللجوء... هل تعرفون أن الفلسطيني في لبنان لا يمكنه ان يتعلم ويعمل في 150 موضوع ومهنة؟... لأن الدولة اللبنانية لا تتعامل معه كمواطن أو كإنسان، إنما كلاجئ إلى أن تجد القضية الفلسطينية حلها... في حين ان الدولة السورية تتعامل ولا تزال مع الانسان الفلسطيني كمواطن أصيل، وفتحت في وجهه كل سبل التعلم والعمل... إلى أن تحين فرصة حل قضيته فيكون قد وضع أسس حياته ومستقبل دولته... لكن، قلة هم الفلسطينيون الذين نجحوا في الوصول إلى كليات الطب.. وعلى وجه الخصوص في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. ومجموعات كبيرة منهم وصلت إلى موسكو وسان بطرسبورغ وكييف واوديسا وغيرها من المدن التي شكلت الاتحاد السوفييتي، او تلقوا تعليمهم في جامعات الدول الاشتراكية... هؤلاء كانوا كنزا كبيرا لشعبهم ومثالا يحتذى به من الأمانة المهنية ورعاية الانسان... كان الدكتور يوسف عراقي أحد هؤلاء..

ونشر الدكتور عراقي كتابه تحت عنوان "يوميات طبيب في تل الزعتر" ولاقى اقبالا واستحسانا كبيرين لأنّه – أي الكتاب – يوثق لحدث مهم ضمن مسلسل الاحداث التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني ولا يزال.

صدرت الطبعة الثالثة في حيفا قبل أسابيع قليلة في حلة جديدة، وسيحتفي نادي حيفا الثقافي بإطلاقها يوم الخميس القادم الموافق 20 تشرين أول – اوكتوبر بحضور مؤلف الكتاب نفسه الدكتور يوسف عراقي ، وسط حفاوة كبيرة. فالطبيب عراقي من مواليد حيفا قبل النكبة، وعرف وعائلته التشريد واللجوء، ولكنه نهض من تحت الدمار ليتابع مسيرته الحياتية من خلال دراسة الطب في موسكو ومن ثم العمل في خدمة أبناء شعبه في المخيم ومواقع أخرى. وستحتفل رابطة خريجي معاهد روسيا والاتحاد السوفييتي والمقهى الثقافي "ليوان" بالدكتور عراقي وإشهار كتابه في مدينة الناصرة في يوم السبت الموافق 22 تشرين اول .

ولقد شهد الدكتور عراقي وعاش مأساة المخيم التي نُقشت عميقا في ذاكرته وعبر عنها بهذه اليوميات ، وأيضا بلوحات فنية بريشته. وتعكس يومياته صورًا للمشاهد الحياتية القاسية التي عاشها اللاجئون في هذا المخيم وغيره، وأيضًا لمشاهد المجزرة الرهيبة التي تُضاف إلى قائمة المجازر التي ارتكبها ويرتكبها أعداء ومبغضو الشعب الفلسطيني، الصامد والمتألم والمتأمل.

حيفا والناصرة، المدينتان الجميلتان تحتضنا الدكتور يوسف عراقي بما يحمله من بذكريات وآمال، أساسها حب الانسان وصُلبها التمسك بالوطن.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]