تحمل هيلاري في شخصيتها الصفات التقليدية للسياسي الأميركي الذي بإمكانه تولي الرئاسة، لكنها ليست الرئيس المثالي لبلد في مثل وضع أميركا اليوم. وإذا كانت هيلاري لا تحمل صفات القائد، فإن ترامب لا يحمل صفة رجل الشأن العام بالحد الأدنى، ولذا فهو قد لا يصلح حتى ليكون عمدة لمدينة عوضاً عن كونه رئيساً للولايات المتحدة.
وقف دونالد ترامب المثخن حتى النخاع بفضائح الماضي ليواجه منافسته هيلاري كلينتون المحملة بفائض ثقة، قبل المناظرة الثانية، أن خصمها لن يفلت من حال الدفاع. لم يسبق لمناظرة رئاسية في القرن الحالي أن حملت هذا الكم من العدائية بين الطرفين، بدا مسرح جامعة واشنطن أشبه بحلبة مصارعة داخل قفص مغلق، وكل مصارع يبحث عن ضربة ينهي بها خصمه دون الحاجة لإكمال القتال.
هكذا تقدمت هيلاري رودهام كلينتون في البداية وفي جعبتها قضية الشريط المسجل لترامب والذي تحدث فيه بأسلوب سوقي عن النساء، بدا الرجل الذي يطرح نفسه مرشحاً لرئاسة الدولة الأكبر في العالم سكيراً في ماخور في مكان ما من هذا العالم. تقزمت إنتخابات أميركا إلى مساحة تحت الحزام فرد ترامب باستذكار فضائح زوج هيلاري، الرئيس الأسبق بيل كلينتون، في البيت الأبيض وخارجه، مثبتاً نوعاً من توازن الذم وقافزاً من تلك النافذة الملعونة في تاريخه إلى بركة الدم التي ملأها داعش في العالم.
شكل داعش بالنسبة للملياردير الأميركي خشبة خلاص للخروج من عنق الزجاجة، وشرفة يقف عليها ليضرب على منافسته بالسياسة وليفتح لها ملفات تعرفها هي جيداً، من بريدها الإلكتروني الخاص المستخدم للعمل، إلى الشرق الأوسط وإيران وروسيا، حتى وصل به الأمر إلى تهديدها بالمحاكمة والسجن بمجرد تقلّده السلطة. وصفها ووصفته، ذمّها وذمّته، بدت أميركا كلها في تلك اللحظة السياسية الحاسمة كمن تقول "يا أرض إنشقي وابلعيني"، فالمشهد بدا هوليوودياً بامتياز، يشبه أفلام أميركا، وتهكم الأميركيين في كوميدياهم الساخرة، ربما كنا لنصدق لو أن المناظرة جرى تعريفها للجمهور على أنها نوع من الستاند آب كوميدي، أو مشهد من فيلم The campaign لويل فيريل، لكنها لم تكن كذلك.
تحمل هيلاري في شخصيتها الصفات التقليدية للسياسي الأميركي الذي بإمكانه تولي الرئاسة، لكنها ليست الرئيس المثالي لبلد في مثل وضع أميركا اليوم. فأميركا تواجه عالماً متغيراً تستعيد فيه روسيا جزءاً من مكانتها السابقة، والصين فيه وإن كانت في وضعية الصامت إلا أنها تعمل ليل نهار في كل أصقاع الأرض لتوسيع نفوذها الإقتصادي والأمني، والشرق الأوسط أشبه بمشفى أمراض عقلية بدون طبيب، وأوروبا بعد التصويت البريطاني على الخروج تنام على الضيم وتخشى من رفع صوتها. أميركا تواجه عالماً يقول عنه المستشرف الإستراتيجي الأميركي جورج فريدمان إنه يمر في ظروف تشبه تلك التي سبقت الحروب العالمية، لذا فهي بحاجة لقائد بمستوى التحدي التاريخي، وهيلاري كلينتون ليست كذلك.
وإذا كانت هيلاري لا تحمل صفات القائد، فإن ترامب لا يحمل صفة رجل الشأن العام بالحد الأدنى، ولذا فهو قد لا يصلح حتى ليكون عمدة لمدينة عوضاً عن كونه رئيساً للولايات المتحدة. ترامب ليس غبياً بالمناسبة كما يحاول البعض تصويره، هو رجل بنى إمبراطورية مالية ضخمة ممتدة على خريطة العالم، بالنسبة له كل شيء له ثمن بما في ذلك البيت الأبيض. ما يحسب للرجل أنه استطاع أن يقلب كل المعادلات ويتخطى كل المنافسين للوصول إلى الإنتخابات مرشحاً عن الحزب الجمهوري الأميركي لكنه واقعاً لا يحمل مشروعاً واضحاً ولا أجوبة شافية اللهم إلا شعاره الذي يرفعه "لنعيد إلى أميركا عظمتها" وهو الشعار الذي اجتذب كثراً ممن تدغدغهم شعارات القوة حتى وإن كانت غير مستندة واقعاً إلى أرضية صلبة، وهو الأمر الذي يجعل الذعر يدبّ في قلوب الكثيرين ممن يتقاطعون مع هيلاري حتى وإن لم يكونوا معها على الموجة ذاتها.
الدولة العميقة في أميركا لا تريد دونالد ترامب رئيساً، فهو لا يشبهها ولا يملك ما يجعله يتطور لاحقاً ليصبح كذلك، ويبدو أن الحزب الجمهوري يتحفظ عليه أكثر فأكثر مع مطالبة شخصيات جمهورية إياه بالانسحاب وفي مقدمهم وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس التي قالت "إنه لا ينبغي أن يتولى الرئاسة". لكن الديمقراطية في نهاية المطاف لعبة خطيرة ولذا فكل الأوراق والأسلحة والوسائل مطروحة على الطاولة لتحقيق هدف الحفاظ على الدولة كما تراها النخب. ولا عجب أن وسائل إعلام رئيسية في الولايات المتحدة أعلنت دعمها لمرشح في مواجهة آخر في تخل صريح عن عنصر رئيس في بنيان الصحافة. بعض هذه الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية تحولت خلال الأيام الماضية إلى منبر مناهض لترامب ومؤيد لكلينتون، ولعل ما كتبته فورين بوليسي، التي تخلت للمرة الأولى منذ نصف قرن عن حيادها الإنتخابي، يعبر عن شريحة من النخب الأميركية، "ترامب يشكل خطراً على أسلوب حياتنا، وحرياتنا، وتحالفاتنا.. ترامب من أكبر التهديدات التي تواجه أميركا" كتبت المجلة الأميركية.
[email protected]
أضف تعليق