لا يخلو عنوان هذا المقال من التفاؤول الا انه لا يدعو للجلوس مكتوفي الايدي اطمئنانًا بان كل شيء على ما يرام فيما يتعلق بنشاط القيادة السياسية ومركباتها في الداخل الفلسطيني والمتمثلة بالاساس في القائمة المشتركة وفي لجنة المتابعة، الا ان الايام القليلة الاخيرة قد شهدت تحولًا مثيرًا للاهتمام في المشهد السياسي العربي، لا بد من الوقوف عنده وتحليل اسقطاته.
القائمة المشتركة تعود للحياة - هذا هو العنوان المناسب للنقاش الجماهيري والاعلامي الذي دار مؤخرًا حول موضوع عدم مشاركة اعضاء القائمة المشتركة في جنازة رئيس دولة اسرائيل السابق شمعون بيريس. قد تكون الصورة لهذه "العودة" ايجابية وقد تكون سلبية، الا انها عودة - "comeback" سياسية واعلامية لها حضورها بامتياز، فالقائمة المشتركة اختفت منذ اشهر طويلة عن المشهد ككيان سياسي، يلعب دورًا في ديناميكية الوحدة السياسية للعرب في اسرائيل في وجه السلطة الجائرة، تلك الوحدة التي أُعلن عنها مع تشكيل القائمة، والتي لم تؤت اكلها ولم تظهر معالمها ولم تترجم الى ثقل سياسي مؤثر بحجم آمال وتوقعات اكثر من مليون عربي فلسطيني في اسرائيل، وذلك لاسباب عديدة، اذكر منها التالي:
اولًا، لا يخفى ان هناك قيادات في القائمة المشتركة، لا تحمل مشروعًا يقضي بوحدة العرب في هذه البلاد سياسيًا او تنظيمهم في اطارات قومية، كمشروع مركزي اساسي يتربع على رأس سلم الاولويات، ولذلك تتعامل مع القائمة المشتركة كتحالف مبدئي واسع يُغَّلب القاسم المشترك ويعطي المساحة للاجتهاد تارة وللغلو في التعامل مع القضايا المركزية او حتى التغريد خارج السرب احيانًا، لا اقول ان هذا التعامل مع القائمة المشتركة خاطىء بالضروروة، الى انه يؤدي بالتأكيد الى ظهور خلل وتناقض داخلي بنيوي بين المشاركة في القائمة المشتركة وبين التصرف السياسي، في حال كان لدى احد الحلفاء مشروعًا سياسيًا آخر مخالفًا لقكرة التنظيم القومي ووحدة العرب السياسية في وجه المنظومة الاسرائيلية الرسمية، كمشروع "معسكر يساري ديمقراطي بديل" او "مشروع الشراكة البرلمانية" او كمشروع كفى الله المؤمنين شر القتال.. وهذا موضوع واسع يحتمل الخطأ والصواب ويحتاج الى نقاش وتحليل في فرصة اخرى، الان ان المراد من هذا التشخيص أن يُسلَط الضوء على أحد أسباب تراجع دور القائمة المشتركة ككيان سياسي يشغل حيزًا في المشهد العام في كل فرصة وفي كل مناسبة.
ثانيًا، وجود الاحزاب العربية الفاعلة في اطار برلماني موحد، جعل من القائمة المشتركة "حائط مبكى" و "جبل مصائب" توجه إليه كل السهام والاتهامات والاخفاقات، بعد ان كانت الاحزاب والقيادات تقتسم نقد وسخط الجمهور. اضافة الى نشوء جو عام جديد في العلاقات المتبادلة بين الاحزاب بدأ ايجابيًا واستمر سلبيًا، بمعنى ان مستوى النقاش الاحترام "والكياسة السياسة" ارتفع بين قيادات وكوادر الاحزاب بعد تشكيل القائمة المشتركة، بحكم مصلحة الوحدة ووحدة المصلحة، الامر الذي تفاقم حد الغاء النقاشات السياسية العلنية بين الاحزاب ومحاولة احتواء الازمات التي من شأنها ان تسهم في اثراء النقاش الجماهيري في امور الهم العام، العلاقة مع الدولة، العلاقة مع القضية الفلسطينية، اساليب النضال والاحتجاجات الجماهيرية وغيرة. هذه الديناميكية التي صَفَّرت النقاش السياسي بين الاحزاب وحولت عملية اتخاذ المواقف الى عملية مبنية إما على الإحراج وإما على الاستفراد؛ ادت الى ضرب هيبة القائمة المشتركة جماهيريًا ومن ثم الى ظهور ديناميكة عودة كل فصيل الى مخدعه ومحاولة تسليط الاضواء اكثر فأكثر على الحزب الام وتغييب الانتماء للقائمة المشتركة كإطار مؤسساتي، الامر الذي يؤدي تدريجيًا اذا ما استمر، الى ضياع المشتركة كمشروع وبقاءها كاطار تقني ليس الا.
ثالثًا، الانتخابات البرلمانية القادمة. نعم، ثمة من يتعامل مع القائمة المشتركة كغنيمة ستوزع على القبائل بعد حين، ولذلك يجب ان يعد العدة وان ينتظر اليوم المشهود للمطالبة باكبر عدد ممكن من المقاعد فيها، ولا ضير في ذلك اذا ما تم التعامل مع الموضوع من منطلق قوة المشروع السياسي الذي يطرحة كل فصيل والدعم الجماهيري لهذا الطرح الذي من شأنه ان يُترجم الى قوة انتخابية حقيقة في الواقع، ولكن، وعلى مشروعية هذا النهج، لا بد من انه يضعف دور وحضور القائمة المشتركة ككيان سياسي جامع للعرب وكمشهد وحدوي طبيعي في مواجهة المؤسسة الاسرائيلية في المضمار البرلماني، اذا ما تحول الى النهج المركزي والى محور العمل.
رابعًا، وجود القائمة المشتركة كعنوان وحيد للعرب في الكنيست الاسرائيلي، ادى الى تسهيل مهمة منافسين محتملين من خارج الاحزاب المركبة للمشتركة، في مهاجمة قرارات او خطوات القائمة المشتركة، بهدف التعبئة وكسب التأييد الجماهيري، حتى وان كانت تلك المعارضة من اجل المعارضة، ليس الا، ولان المنطق الطبيعي للتصرف والتفكير الانساني لا يخلو من "الضد"، فمهمة منافسة المشتركة عبر معارضتها كجسم سياسي وحيد في المشهد السياسي هي مهمة سهلة وعمله رائجة ودارجة في هذه الايام.
خامسًا، هشاشة التعامل مع الاحداث السياسية العامة، وتحويل الثقل الى المدني والخدماتي.
من المآسي التي واجهتها القائمة المشتركة منذ بداية عملها، هو الانجاز والتحول النوعي في التعامل مع مؤسسات الدولة في ما يتعلق بالميزانيات والقضايا المدنية، مقابل الاخفاق في في التعامل مع الاحداث السياسية الكبيرة خاصة كقضية حظر الحركة الاسلامية وابعاد اعضاء البرلمان العرب عن الكنيست وسن قانون حول ذلك.
فبينما حصل تحول نوعي في مستوى التنسيق والتشبيك والعمل المهني بين القائمة المشتركة ومركباتها وبين السلطات المحلية العربية والجمعيات الاهلية، مما ادى الى طفرة في نوعية العمل المهني والمطلبي للنهوض بوضع الاقلية العربية في شتى المجالات (ليس هذا حكم على النتائج بل على المنهجية)، وقفت القائمة المشتركة عاجزة بدون رد امام ملاحقة العمل السياسي العربي والتحريض ضد المواطنين العرب من قبل اليمين ورئيس الحكومة بذاته مرة تلى الاخرى. هذه المقابلة لا تهدف الى الموازنة بين الامرين او تفضيل احدهم على الاخر، بل تهدف الى طرح تساؤول حول ديناميكية العمل البرلماني المشتبك بالضرورة مع العمل السياسي والمعركة على الرأي العام، الامر الذي من شأنة ان يضعف شوكة المشتركة اكثر، اذا ما اتضح ان هذا الخمول والهوان في الخطاب السياسي هو ثمن تدفعة الاقلية العربية مقابل فتلت من حقوق مدنية وميزانيات لها الحق فيها سلفًا.
ليست هذه الاسباب الوحيدة والحصرية الا انها المركزية بايجاز،والتي ادت الى تحول القائمة المشتركة الى اطار برلماني لا لون له ولا طعم ولا رائحة، يمتهن العمل المدني ولا يلعب دورًا في النضال السياسي والاسهام في ترشيد الخطاب السياسي في ثقافة ووعي الناس، مما اعطى الشعور باختفاء المشتركة عن المشهد ككيان له وزن حقيقي، فما الذي حدث في الاسبوع المنصرم وهل عادت "المشتركة" الى المشهد؟
قرار نواب المشتركة بعدم المشاركة في جنازة بيرس لا يحظى بتأييد كاسح لدى الجماهير العريضة، ليس لان شعبنا تنازل عن كرامته او لانه لا يعرف تاريخ بيرس الحافل في نكبة شعبنا واستيلاء الصهيونيه على ارضة وخيراته، بل هو نتيجة لتمييع الخطاب السياسي في الآونة الاخيرة، وقبول التنازل في الموقف مقابل رضى الاعلام الاسرائيلي وتهليله ومقابل فرز العرب الى متطرفين ومعتدلين في نظر السلطة، كي يتحول المعتدلون الى القيادة التي باستطاعتها ان تكون مقبولة لدى السلطة وان تأتي بالانجازات وان تحسن "من صورتنا لدى اليهود". وقد استفحلت المؤسسة الاسرائيلية مؤخرًا في تعميق هذه الحالة وترسيخها في مقابل استمرار نتنياهو في التحريض ضد العرب تارة وفي الحديث عن اهمية اندماجهم في المجتمع الاسرائيلي واستعداد الدولة في ضخ الميزانيات من اجل ذلك تارة.
في هذه الظروف، والتي سبقها نقاش جماهيري واسع حول شخص وشخصية شيمعون بيرس وعلاقتنا مع الدولة في ما يتعلق بالحقوق وربطها بالولاء لدولة اسرائيل بشتى مفاهيمه واشكاله، شكلت مقاطعة نواب المشتركة للجنازة حدثًا اعلاميًا، خلط الاوراق من جديد وكان بمثابة صفعة للنهج الاسرائيلي السلطوي الذي ارادنا مشتتين واراد للقائمة المشتركة ان تكون كيان خالي من اي مضمون سياسي.
الايام الاخيرة اثبتت ان الوحدة والوحدة في الموقف هي الوضع الطبيعي في وضع العرب السياسي، وان الخطاب السياسي الثابت والمنضبط هو ضمان استمرار هذه الوحدة بقوة. الايام الاخيرة اعادت كيان القائمة المشتركة الى المشهد السياسي بقوة. ولا يغرننا النقد والعتب على المشتركة، هذا هو المطلوب من الجمهور، اما المطلوب من المشتركة هو ان ترشد الخطاب السياسي بطريقة استراتيجية مدروسة وطنية واخلاقية وان تقود بكل عنفوان هذا الخطاب من جديد، في هذا الزمن الرديء.
[email protected]
أضف تعليق