على مدار ثلاثة أسابيع خلَت، لم أفلح في التّركيز ولم أتفوّق على آلامٍ جسديّة ألمّت بي، لعينة كانت ومُفاجِئة، أقوى ممّا خِلتُها بكثير، كبّلت فكري وقيّدت يدي..! لكنّ أمراض مجتمعنا ومشاكله، وتفكيرنا المكبّل بقيود رجعيّة صَدِئة بائدة، دفعتني لإبانة غضبي وعدم اجتراره؛ بخلاف غالبيّة مجتمعنا العربيّ الّتي اعتادت على اجترار الكلام وبيانات الاستنكار والشّجب والتّعاطف.. محاولًا أن ألعقَ جراحي وأختال على آلامي لأركّز في كتابة مقالتي هذه.
الغيوم السّوداء والضّبابية تكتنف مجتمعنا العربيّ وتلفّه من كلّ حدب وصوب، اجتماعيًّا وطائفيًّا وسياسيًّا وفكريًّا.. أفكار تحجّريّة ترمي اِمرأة بأمور "قبيحة" لتُرمَى لاحقًا بالرّصاص في وضح النّهار على مرأى ومسمع من أطفالها؛ فكر داعشيّ مُدلهمّ مأجور، يتاجر بالدّين لإسكات الكلمة واغتيال الأفكار النيّرة؛ طلّاب يمارسون أشرس أنواع العنف داخل مؤسّسة تربويّة، منتهكين حرمة التّربية؛ يطالبون بتحرّر الفتاة وتحرير المرأة، ويعملون على فصل الطّالبات عن الطّلّاب في المواصلات العامّة منعًا للتحرّشات الجنسيّة جرّاء اكتظاظ الحافلات بطلبة من الجنسين، مع العلم بأنّ الإحصائيّات تشير إلى أنّ غالبيّة المتحرّشين جنسيًّا هم من أقرب المقرّبين للضّحيّة!!
وأعود لأذكّر، مجدّدًا، أنّنا – للأسف – اعتدنا منذ سنوات أن نغفو على ظلمٍ وفسادٍ وتخلّفٍ وعنفٍ وبطشٍ، ونصحو من كابوسنا اللّيليّ على جرائم قتل نساء وشباب وتصفية حسابات.. مجتمع فوضويّ مُبدع في النّفاق والتلوّن والتّخوين والتّرهيب والقمع، مُبدع في القتل والثّأر، مُبدع في حوادث السّير والعمل، مُبدع في الانجراف نحو الهاوية، مُبدع في التّسلّط وفرض الرّأي وتهميش الآخر، مُبدع في التّطرّف والطّائفيّة والكراهيَة والبُغض، مُبدع في حبّ الذّات وتضخيم الأنا، مُبدع في الشّكوك والأمراض النّفسانيّة المُستعصية..!
بات من العصيب القضاء على العنف المتغلغل في مجتمعنا وتغيير أفكارنا وتنقية ضمائرنا وتصفية نفوسنا، حتّى لو تمكّنت السّلطات المخوّلة من سحب ومصادرة كافّة الأسلحة من أيادي المجرمين، طالما سنجد عقولًا متحجّرة ونفوسًا مريضة وأفكارًا متخلّفة وثُللًا عائليّة وفئويّة وطائفيّة ترسّخ في أذهان الأجيال القادمة معاني التّفرقة والمُفاضَلة والتّمييز والسّيطرة، لتزيده استقطابًا وعنفًا.
متى سننتصر على العدوّ الكامن فينا، ونتخلّى عن أفكارنا الرّجعيّة الّتي تسيطر على أدمغتنا؟! متى سنرمي جانبًا لغة السّخرية والوعيد والتّهديد والانتقام والعنف والتّفضيل والطّائفيّة والحقد والتّكفير، بدل أن نرمي بعضنا بعضًا بالرّصاص؟! تحوّلنا إلى مجتمع أوغاد فرديّة، لكلّ فرد فيه قوانينه الخاصّة، من دون محرّمات ولا ممنوعات.. نتغنّى بالحريّات ونحن سجناء أفكار رجعيّة تخلفيّة بدائيّة، نتغنّى بالحريّات ونتعدّى على حريّة الآخر، نتغنّى بالحريّات ونحدّ من حريّة المرأة، نتغنّى بالحريّات ونغتال حريّة الرأي والدّين والفكر، نتغنّى بالحريّات ونمارس خِلافَها.. مجتمع يتغنّى بالكلام فقط!
لوقع الكلام لدى الشّعوب المتحضّرة النيّرة المتقدّمه، تأثير كبير، إلّا أنّ لأزيز الرّصاص الوقع الأشدّ في مجتمعنا.. هذا هو زمن قتل الكلمة الحرّة وإسكات الرّأي النيّر وقمع الحريّات المختلفة، بادّعاء الشّرف - الّذي أضاعه مجتمعنا العربيّ منذ مدّة طويلة؛ زمن الغدر بحجّة التّطاول على "الذّات الإلهيّة"، فيتكلّمون باسم الله ويخالفون أحكامه وقوانينه.
مجتمع يلوّث أدمغة أجياله الصّاعدة ونقاء أذهانهم بمشاهد يوميّة من قتل وانتقام وإطلاق رصاص وعنف واضّطهاد.. فكيف يمكننا أن نغيّر تفكير طفل يولد ويترعرع وينمو وسط أجواء مُرعبة وآراء مسيطرة وأفكار هدّامة، ونأمل من أجيالنا القادمة التّغيير والتّحسين، طالما نحن لا نغيّر ولا نحسّن. غارقون في مستنقع موحل من الهموم والمشاكل، نحن أعداء أنفسنا، ضحيّة تخلّفنا، وأسرى جهلنا.. نعمل بشكل فرديّ وعشوائيّ، ضاربين عرض الحائط بمسلّمات التّربية والأخلاق والفكر والشّرف؛ نهتم بتغيير وتبديل هواتفنا النقّالة ومركباتنا لنواكب العصر والتّطوّر، ولا نبدّل ونغيّر ما بأنفسنا وأفكارنا..!
أفكارنا هدّامة.. فمَن يقتل باسم الدّين لا دين له، ومَن يقتل باسم الشّرف فعديم الشّرف هو..! يتعلّلون بالشّرف والدّين، وهم أبعد عنه بُعد الثّرى عن الثّريا. علينا التّحرّر من موبقاتنا وتخلّفنا واحتلالنا لذاتنا قبل المطالبة بالحريّة.. فهيئة الإنسانيّة بمجتمعنا في اندثار، وأفراده يبدعون في الانحطاط الأخلاقي والفكريّ، متقهقرين متراجعين.. عار على مجتمع لا يساوي بين الرّجل والمرأة ولا يُحسن التّعامل معها؛ فكيف نطالب بتحقيق المساواة الّتي نسعى إليها في هذه البلاد ونحن لا نساوي فيما بيننا؟!عَيب على مجتمع أن يسيطر عليه فكر ذكوريّ "مخصيّ" وعقليّة متطرّفة!
إنّ جرائم القتل في المجتمع العربيّ في البلاد تخطّت الـ60% من مجمل جرائم القتل في المجتمع الإسرائيليّ، ونحن لا نشكّل سوى 20% من مجمل سكّان هذه البلاد. لم تنجح الشّرطة الإسرائيليّة في حلّ أكثر من 20% من جرائم القتل.. لا لأنّها عاجزة عن حلّ جرائم القتل في مجتمعنا العربيّ، وتقديم المجرمين للعدالة، وسحب كافّة الأسلحة المرخّصة وغير المرخّصة من قرانا وبلداتنا، بل لأنّها ليست معنيّة بذلك..!
إنّ العنف المستشري في شارعنا العربيّ وفوضى السّلاح والقتل لا يحرّك ساكنًا لدى المؤسّسات الإسرائيليّة، ولا يقضّ مضاجعها، طالما أنّ المجرمَ عربيّ والضّحيّة عربيّة، أيضًا!
علينا أن نسعى إلى تحقيق الدّعم الفعليّ والتّقدير للمرأة، وترجمته على أرض الواقع، بعيدًا عن الشّعارات الرّنانة والهتافات الطنّانة الّتي يتغنّى بها رجال مجتمعنا من على صفحات الصّحف والمجلّات ومواقع "الإنترنِت" والتّواصل الاجتماعيّ المختلفة، وهم في الواقع يمارسون بحقّ المرأة، يوميًّا، التّحقير والإهانة والتّمييز والاستغلال والاعتداء والتّرهيب والقتل..
لتكن تربيتنا وثقافتنا قائمة على احترام رغبات الأم والزّوجة والأخت والابنة، والعمل معًا على نشر تلك الثّقافة، علينا أن نسعى، دائمًا وأبدًا، لتنشئة أجيال تحترم المرأة، تقدّرها، بل تقدّس رسالتها وتتفهّم رغباتها، فهي أكبر من أن تكون نصف المجتمع، لأنّها المجتمع بأسره، فهي الأم المربّية أوّلًا وأخيرًا، وهي العمود الأساس في المجتمع.
دعونا نعود ونتعامل مع بعضنا بعضًا من منطلق إنسانيّ وأخلاقيّ.. فالانتقاد البنّاء السّليم هو الآليّة الصّحيحة والصّحيّة ضمن مجتمع يصبو ويطلب اللّحاق بركب الحضارة والتّطوّر.. لا لفرض الآراء والأفكار ورفض كلّ مَن يجدّف ضدّ التيّار.. دعونا لا نحكم على أحد كَيْلا نُحاكَم!
كم نحن بحاجة للعودة إلى إنسانيّتنا، في زمن تنتكس فيه التّربية وينتكب فيه الفكر!
(*) الكاتب صحافي حيفاويّ، مدير تحرير صحيفة "حيفا"
[email protected]
أضف تعليق