حتى يتم حسم الجدل عن الجهة المسؤولة عن اغتيال ابو محمد العدناني، الناطق الرسمي باسم تنظيم “الدولة الاسلامية”، واول من اعلن قيام دولة الخلافة في العراق وسورية في حزيران (يونيو) عام 2014، فإننا نقول، دون تردد، بأن مقتله كان خسارة كبيرة وقاسية للتنظيم، لما يتمتع به منكفاءات عالية في الميادين العسكرية والاعلامية معا، والخبرة الطويلة في “العمل الجهادي” تمتد لاكثر من عشرين عاما.

التنافس بين وزارتي الدفاع الامريكية ونظيرتها الروسية على ادعاء “شرف” اغتيال العدناني، يؤكد مكانة الرجل واهميته وخطورته، مثلما يؤكد ايضا التنسيق بين الدولتين العظميين على اعلى المستويات الاستخبارية والعسكرية، لاجتثاث هذا التنظيم واستهداف قياداته الواحدة تلو الاخرى.
اغتيال العدناني، واي كانت الجهة التي نفذته وتقف خلفه، جاء نتيجة اختراق امني لصفوف التنظيم، وهذا امر غير مفاجيء، اذا نظرنا الى عدد الاجهزة الاستخبارية العالمية والاقليمية، وقدراتها الهائلة التي تقف وراء هذا الاختراق، ابتداء من المخابرات الامريكية “سي اي ايه”، ومرورا بوكالة “ام آي 6″ البريطانية، وانتهاء بالاستخبارات العسكرية الروسية، ناهيك عن وكالات الاستخبارات الاقليمية، من ايرانية، واردنية، وسورية، وعراقية، والقائمة تطول.

***
رحيل العدناني سيكون خسارة كبيرة لتنظيم “الدولة الاسلامية” لانه كان اكبر بكثير من كونه ناطقا بإسمها، فقد كان عقلا عسكريا جبارا ايضا، وتولى قيادة الجناح العسكري للتنظيم بعد مقتل ابو عمر الشيشاني في تموز (يوليو) الماضي، وانخرط في صفوف تنظيم “القاعدة” قبل العام 2000، وبايع ابو مصعب الزرقاوي رئيسا لفرعه في العراق، وقاتل الاحتلال الامريكي بشراسة، وكان من اوائل المقاتلين السوريين الذين انضموا الى صفوف المقاومة العراقية.
وما لا يعرفه الكثيرون، ونسمح لانفسنا بكشفه في هذه الصحيفة “راي اليوم”، واستنادا الى مصادر موثوقة، ان الراحل العدناني الذي اعتقل من قبل القوات الامريكية بين عامي 2005 و2010، كان من المجموعة القليلة التي تعد على اصابع اليد الواحدة التي بذرت البذور الاولى لتنظيم “الدولة الاسلامية” في سجن “بوكا”، قرب البصرة، وكان صديقا وثيقا للسيد ابو بكر البغدادي، زعيمه، واقام معه في زنزانة واحدة مع آخرين من ضباط الحرس الجمهوري والجيش العراقي الذي حله بول بريمر الحاكم العسكري الامريكي، وجرى اختياره عضوا في “مجلس الشورى” الذي تأسس بعد اغتيال ابو مصعب الزرقاوي، وانبثقت عنه “الدولة الاسلامية” لاحقا.
لا نبالغ اذا قلنا ان الدولتين العظميين، والولايات المتحدة الامريكية على وجه الخصوص، سيشعران بالارتياح لاغتيال العدناني الذي كان الوجه الوحيد المعروف الذي يظهر على الشاشات، وافلام الفيديو، لانه هندس معظم الهجمات الاخيرة في باريس وبروكسل، واورلاندو، وشاطيء نيس، ويملك قدرات تعبوية وتجنيدية هائلة في صفوف الجاليات الاسلامية في الغرب.
آخر رسالة صوتية للعدناني كانت في ايار (مايو) الماضي، عندما حث انصار “الدولة الاسلامية” وخلاياها النائمة بتنفيذ هجمات دموية بكل الطرق والوسائل ضد الامريكان والفرنسيين: بالرصاص والعبوات الناسفة، والسكاكين، والدهس، والحرق، وحتى بالبصق، وهذا اضعف الايمان، في رأيه، ووجد تجاوبا من بعض “الذئاب المنفردة”، خاصة من قبل منفذ هجوم نيس الارهابي الذي استأجر حافلة ضخمة، وانطلق بها دهسا لكل من كان على رصيف الشاطيء.
تنظيم “الدولة الاسلامية” سارع، وعلى غير عادته، الى اعلان نبأ مقتل العدناني في اليوم نفسه، مؤكدا عبر وكالة اعماق الرسمية، انه كان يشرف على القتال في مدينة الباب في محافظة حلب، وكان لافتا انه وصفه بـ “الحسني القرشي”، موحيا انه من الاشراف، مثله مثل زعيم التنظيم ابو بكر البغدادي، وهذه معلومة جديدة بالنسبة الينا على الاقل، ومؤكدا انه سينتقم لمقتله.
***
الحقيقة التي بات من الصعب تجاهلها تتلخص في ان هذا التنظيم لم يعد يخسر مناطق ومدن مهمة، مثل منبج وجرابلس والفلوجة وتدمر والرمادي، وانما العديد من قياداته في الصفين الاول والثاني في حرب استنزافية على جميع الصعد، الامر الذي دفع بعض الخبراء الى التكهن بان الضربة القادمة قد يكون ضحيتها زعيمه ابو بكر البغدادي نفسه.
من المؤكد ان هذا التنظيم، مثل معظم التنظيمات الاخرى سيجد بديلا للراحل العدناني، لانه ليس تنظيم “الرجل الواحد”، وقيادته جماعية بالدرجة الاولى، تبتعد عن الاضواء، لكن تعويض العدناني لن يكون سهلا، لمكانته المؤثرة في صفوف التنظيم انصاره، وقدراته الخطابية والادارية العالية والمتعددة.
تنظيم “الدولة الاسلامية” سيخسر كثيرا، ومصابه كبير، برحيل الناطق بإسمه دون شك، وفي هذا التوقيت الذي تتعاظم عليه الضربات وتنكمش قاعدته الجغرافية، ويفقد الآلاف من رجالاته، ولكنه لن يندثر او ينهار كليا، فأمامه خيار العمل السري تحت الارض، والانتقال الى “الخطة B”، اي الاعمال الارهابية وتكثيفها، والتمدد في مناطق اخرى في العالم الاسلامي، والتخلي عن الخطة “A” التي تتمثل في التمكن الجغرافي، وهنا قد يكون خطره مضاعفا عدة مرات.
اقامة سرادق الاحتفال بإنهيار هذا التنظيم الارهابي الاخطر، ربما يكون سابقا لاوانه، حتى لو تم اغتيال زعيمه البغدادي نفسه، لانه تنظيم عقائدي، قبل ان يكون سياسي عسكري.. وما يجري في المنطقة من فوضى دموية وتدخلات عسكرية يوفر له، ولامثاله، الحواضن “الطائفية” التي يريدها، وهذه مسألة اخرى.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]