يبدو أن تركيا لم تعد الطرف المؤثر المتفرج على ما تؤول إليه الأوضاع السورية، خصوصاً بعد فترة جفاء العلاقة بينها وبين روسيا، حين أسقطت واحدةً من طائراتها قبالة الحدود السورية- التركية في رسالة تعكس عدم رضا تركي عن التدخل العسكري الروسي في سورية.
تركيا اليوم ليست تركيا الأمس، وتركيا قبل الانقلاب الفاشل الذي كاد يطيح بقيادتها ليست تركيا بعد مرحلة الانقلاب، ذلك أنها اليوم في علاقة طيبة مع روسيا، بعيد الاعتذار الرسمي التركي عن حادثة إسقاط الطائرة الروسية، استتبع بزيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى موسكو واللقاء الحار الذي جمعه ببوتين.
قبل الانقلاب الفاشل كانت أنقرة تتطلع إلى تحسين علاقتها بدول الجوار العربي، خاصةً وأن علاقتها بإيران جيدة، وعاد الوفاق بينها وبين إسرائيل، فلم يعد أمامها سوى تحسين علاقتها بكل من العراق وسورية، ليس لاعتبارات القرب الجغرافي فحسب، وإنما لغرض في نفس يعقوب.
اليوم ترغب تركيا في لعب دور أكبر في موضوع النزاع السوري، وهذا الدور يأتي لاعتبارات تركية وطنية، فضلاً عن عودة التقارب الروسي- التركي، ولعل موسكو طلبت من أنقرة بذل جهد أكبر في مساعي حل الأزمة السورية.
بعيد لقاء أردوغان- بوتين في موسكو، ألمحت أنقرة إلى إمكانية التعامل مع الرئيس السوري بشار الأسد، على أساس أنه جزء من الحل في الأزمة السورية، وأكدت على أن النظام السوري طرف أساسي في أي مفاوضات مستقبلية.
يأتي هذا التطور في الموقف التركي في ضوء ثلاث مسائل رئيسية، أولها أن أنقرة باتت تنظر بعين الخوف لتنظيم «داعش» الذي أصبح يهدد أراضيها من الجنوب، والمسألة الثانية تتعلق بتنامي الدور الكردي في سورية، وتعزيز الوجود الكردي في مناطق شمال سورية.
أما المسألة الثالثة فلها علاقة ربما بالفهم الدولي لواقع النزاع السوري، خاصةً وأن دولاً مؤثرة في هذا النزاع باتت تنظر إلى نظام الأسد على أنه أهون الشرور، وأن فكرة التغاضي عن وجود مرحلة انتقالية يحكم فيها الرئيس السوري، تمثل صمام الأمان الذي يحد من تعاظم التنظيمات المتطرفة.
ربما هذه هي الأسباب التي جعلت أنقرة تتدخل عسكرياً في سورية، وتقصف «داعش» بمساعدة من الأميركان، وتسعى إلى إبعاد الأكراد عن جرابلس، على حساب سيطرة الجيش الحر الذي يمثل المعارضة المعتدلة التي تدعمها وتتعامل معها تركيا.
وتصر تركيا على وحدة الأراضي السورية، لأنها تعلم أن استمرار النزاع وإضعاف النظام السوري أكثر فأكثر، قد يخلق وجوداً كردياً يهدد السيادتين السورية والتركية، وقد تتفق الأولى مع الثانية على طبيعة التدخل لدحر «داعش» أيضاً، ولو أنها في العلن لا تستطيع قول ذلك.
أضف إلى ذلك أن تركيا التي امتنعت طائراتها عن الاقتراب من الحدود السورية حين احتدم الخلاف بينها وروسيا على خلفية إسقاط طائرة هناك، قامت قبل ثلاثة أيام بتدخل عسكري في شمال مدينة حلب، من أجل تنظيف حدودها من «داعش»، وعدم السماح لأكراد سورية بالسيطرة على منطقة جرابلس، خاصةً وأنهم كانوا قد سيطروا على منبج من قبضة «داعش».
هذا التدخل بالتأكيد جاء بعد موافقة الأميركان والروس، فكلا الطرفين لهما مصلحة في تضييق الخناق على «داعش»، غير أن كل طرف يدعم حليفه على حساب الآخر، والعبرة في إبقاء طرفي النزاع السوري، القوات الحكومية والمعارضة المعتدلة في نفس ميزان التوازن العسكري.
الاعتقاد السائد الآن أن الهدف الدولي يتصل بتوسيع الضربات على تنظيم «داعش» وغيره من التنظيمات المتطرفة الأخرى، وعدم الإخلال بالتوازنات العسكرية لطرفي النزاع السوري، وهذا كان وما يزال واضحاً في المشهد السوري عموماً وفي المشهد الحلبي تحديداً.
ويعني الإبقاء على توازن عسكري لا يصل إلى مرحلة الحسم، أن هناك صيغة سياسية مستقبلية محتملة تستهدف النظام السوري والمعارضة المعتدلة، سواء في شكل هيئة حكم انتقالي تُسيّر أمور البلاد إلى حين إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، أو حكومة وحدة وطنية توافقية، أو شكل من أشكال المحاصصة الفصائلية.
هذه الأفكار قد تكون واردة في ذهن القيادة التركية، التي تفضل في كل الأحوال رحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة، ولو أنها باتت تنظر إلى الأمور بواقعية، وترى أنه لا يمكن إغفاله عن المشهد السياسي في سورية، كونه أحد أهم الفاعلين في هذا المشهد.
وتدرك أنقرة أن وجود النظام السوري على رأس السلطة، سواء خلال وقت النزاع أو بعده، سيعني حالة من التوتر الشديد بين البلدين، وهذا ما تحاول القيادة التركية حله، حيث تعتقد أن علاقة جوار جيدة أو معقولة مع سورية، ستعني تخفيف الصداع المزمن مع المسألة الكردية وتناميها.
خلاصة القول إن تركيا باتت تنظر إلى دولتي الجوار السوري والعراقي بأهمية بالغة، ذلك أنها تشعر بالاكتواء من التهديد الكردي وتوسع رقعته الجغرافية وتنامي قوته، كما يخوفها استنساخ نموذج «داعش» في الفضاء التركي.
وفي كل الأحوال يبدو أن تركيا شبه مطمئنة للدورين الأميركي والروسي إزاء الحالة الكردية، ذلك أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري أبلغ نظيره التركي مولود جاويش أوغلو أن وحدات حماية الشعب الكردية في سورية انسحبت من مدينة منبج في ريف حلب إلى شرق الفرات.
ويجوز القول إن من حسنات عودة العلاقات التركية- الروسية بالنسبة للأولى إلى مجراها الطبيعي هو تحجيم الأكراد في سورية والعراق، وكذلك الحال يحدث هذا الأمر بين واشنطن وأنقرة، حيث تسعى الأولى لاسترضاء الثانية على خلفية موقفها «البارد» من فشل الانقلاب في تركيا.
إذاً هناك مصلحة تركية- سورية في دحر «داعش» وتحجيم الأكراد، غير أن كل طرف ينظر إلى الآخر بطريقة عدائية نتيجة مواقف سياسية تكرست عبر مسيرة النزاع السوري المتواصل لأكثر من خمسة أعوام، وثمة ما يقال عن أن هناك مساعيَ إيرانية- روسية للتقريب بين أردوغان والأسد، وقابل الأيام سيكشف أكثر عن مصير العلاقات التركية- السورية.
[email protected]
أضف تعليق