لا تزال حرب تموز 2006 أو كما يطلق عليها الاسرائيليون حرب لبنان الثانية، وهي من بدايتها وحتى نهايتها عدوان اسرائيلي على لبنان أرضًا وشعبًا وسيادة، الأكثر جدلاً في أروقة السياسيين والعسكريين ومن صانعي القرار، وأيضًا في الشارع الاسرائيلي العام وفي المؤسسات والهيئات البحثية والاعلامية. بمعنى آخر، فإن هذه الحرب تُشغل الاسرائيليين أكثر من حرب 1948 والتي يُطلق عليها الاسرائيليون "حرب التحرير"، و "حرب الاستقلال". صدرت العشرات بل المئات من الأبحاث والدراسات والمقالات والنقاشات والتقارير حول حرب تموز 2006. وكل هذه تصب في خانة بناء استراتيجية مستقبلية لكيفية إعادة كرامة الجيش الاسرائيلي التي ضربت في صميمها. أضف إلى ذلك أن كل هذه الأبحاث تعمل معًا من أجل مساعدة متخذي القرار على صقل وبلورة مشروع حرب جديدة على لبنان، آتية قريبًا أو بعيدًا.
وبما أن ذكرى الحرب العاشرة حاضرة الآن في وجدان وذاكرة اللبنانيين والفلسطينيين والاسرائيليين والعرب أيضًا، فإننا نود أن نلقي نظرة خاطفة على الأسباب الدافعة لهذه الحرب ونتائجها والعبر المستخلصة منها.
كان، واعتقد لا يزال، مشروع اسرائيل بتشييد منطقة عازلة على حدودها مع لبنان، من خلال تشكيل حزام بين الحدود ونهر الليطاني، فيه أقل ما يمكن من الكثافة السكانية، أي عدد قليل من القرى اللبنانية، وعدم وجود أي قوة أمنية لبنانية سواء الرسمية أي الجيش وطبعًا عدم وجود المقاومة اللبنانية الممثلة بحزب الله.
لكن هذا المشروع باء بالفشل الذريع بهرب فلول الجيش الاسرائيلي في عام 2000 دون تحقيق أي جزء أو مركب من مشروعه هذا. وعادت منطقة الجنوب اللبناني تهنأ بالهدوء والاستقرار وزاد عدد سكان المنطقة، وتحسنت أحوالها الاقتصادية والعمرانية والتي يمكن ملاحظتها بمجرد النظر عبر الخط الحدودي في الشمال نحو هذه القرى أو بعض منها.
من جهة ثانية، أرادت اسرائيل تسديد ضربة للمقاومة اللبنانية من خلال قصف جوي ونسف للضاحية بفترة زمنية قصيرة جدًّا لدفع قيادة المقاومة إلى رفع الراية البيضاء. وهدف اسرائيل هو تجريد الأراضي اللبنانية من وجود أي حركة مقاومة ضدها، فنجحت في اخراج منظمة التحرير الفلسطينية في 1982 إلى تونس وتصفية عدد من قياداتها، وجرها الى مفاوضات مدريد ثم ابرام الاتفاقيات المذلة في اوسلو. وطبعا، لم تُرفع راية بيضاء من قبل اللبنانيين والمقاومة.
بعزل لبنان، فيما لو تم ذلك، تنجح اسرائيل في تشكيل تحالف بين لبنان والولايات الامريكية وجعل لبنان يخضع لاملاءات اسرائيل وامريكا. لكن وجود المقاومة صعّب المعادلة بشكل كبير جدًّا. فحاولت اسرائيل اختراق لبنان عبر شبكات تجسسية كبيرة لمعرفة تحركات حزب الله، لكنها في هذا الميدان ايضا لحق بها فشل ذريع.ونجحت بطريق غير مباشر في خلق معارضة لبنانية داخلية للمقاومة متمثلة بتيار المستقبل المتماثل مع سياسات الولايات المتحدة وبعض دول الخليج، وعلى رأسها المملكة السعودية.
إذن، محاولة اسرائيل تصفية المقاومة – حزب الله – كان احد ابرز اهدافها، وفي حالة تحقيق النجاح من وراء ذلك تكون اسرائيل قد حققت المزيد من هيمنتها على المنطقة وفرض اجندتها السياسية والعسكرية، لتبقى اللاعب الأقوى والحارس الأكبر للمنطقة.
لكن، ما حصل في حرب تموز 2006 هو العكس تمامًا، حيث أن اسرائيل تلقت صفعات مدوية كضرب مواقع عسكرية اسرائيلية حساسة، وضرب بارجة حربية مزودة بأحدث الوسائل القتالية التكنولوجية... ومصداقية الرسائل التي بثها ويبثها أمين عام الحزب السيد نصرالله.. كلها جعلت الشارع الاسرائيلي العام يميل إلى الثقة بما يقوله ويبثه، أكثر مما ينقله إليه سياسيو اسرائيل.
بعد هذا العرض السريع والخاطف لعدد من النتائج، نميل الآن إلى عرض موجز لعدد من النتائج والعبر من هذه الحرب، ومنها:
بيّنت هذه الحرب وجود خلل في المنظومة العسكرية، في مقدمتها التعالي والغطرسة التي أغرقت عدد من القيادات في الجيش لدرجة الاستهزاء بقدرات المقاومة وعدم قياسها بشكل صحيح. ومن جهة أخرى، عدم اعتياد جنود جيش اسرائيل على هذا النوع من القتال الذي مارسه مقاومو حزب الله، نعني به قتال العصابات، وأيضًا استخدام الاستحكامات والانفاق.
ولا بد من الاشارة هنا إلى التغييرات التي حصلت على العقيدة العسكرية الاسرائيلية – إن وجدت مثل هذه العقيدة بصورة رسمية – ألا وهي جعل الحرب في أرض العدو وإلحاق اكبر هزيمة به. لكن في هذه المرة، أي في حرب تموز 2006 كان جزءا من الحرب على ارض اسرائيل. إذ وصلت صواريخ المقاومة إلى ما بعد بعد حيفا، وخلقت فزعا ورعبا شديدين في أوساط الاسرائيليين الذين كانوا واثقين أنّ جيشهم الاسطوري لن ينتكس، بل سيقوى ويقف في مواجهة هذه الصواريخ... لكن هذا لم يحدث... فكانت الحرب ولأول مرة على أرض اسرائيل منذ عام 1948.
تحويل الحرب من أرض العدو(بالمفاهيم الاسرائيلية) إلى اسرائيل، كوّن قوة ردع جديدة على الحدود مع لبنان. لأن اسرائيل تدرك أنه بعد عشر سنوات على هذه الحرب التي لا تريد ان تتذكرها، أن حزب الله يمتلك الآلاف من الصواريخ التي يمكن أن تصل إلى كل موقع فيها. أصبح كل موقع في اسرائيل على مرمى صواريخ حزب الله. وهذا في حد ذاته قوض نظرية اسرائيل التي لا تُــقهر، واسرائيل القادرة على صد أي هجوم خارجي آتٍ عليها.
إذن، هناك تغييرات نجمت عن هذه الحرب، في منظومة الاستعدادات الاسرائيلية لحالة حرب قادمة، وأعتقد لا محالة. حيث أن اسرائيل لن تقفز عن هذه الحرب دون أن "تُـبيض" وجهها ولو أمام مواطنيها... لكن أي تبييض سيحصل!!! الله أعلم.
من جهة أخرى، تدأب حكومة اسرائيل على التخلّـص من شبح "بيت العنكبوت" الذي يلاحقها منذ تلك الحرب. حيث وصف السيد حسن نصرالله الجيش الاسرائيلي عند خروجه مهزومًا في بنت جبيل عام 2000 كبيت العنكبوت للدلالة على الضعف والوهن والارتخاء وعدم معرفة البوصلة الصحيحة. نتنياهو وقيادات عسكرية كثيرة كانت مصممة في عدوانها في 2006 على العودة إلى بنت جبيل وسحق بيت العنكبوت نهائيًا. لكن ذلك لم يتحقق بالمرة. لكن، لا يزال بيت العنكبوت مُلاحقًا لأحلام ويقظة نتنياهو وقياداته السياسية والعسكرية منذ حرب تموز 2006، وأشار نتنياهو إلى ذلك في خطابه لمناسبة الذكرى العاشرة لهذه الحرب في الكنيست الاسرائيلي قبل اسابيع قليلة.
لكن هذه الرمزية في وصف الحدث، تحمل في طياتها صناعة تخويف وتفزيع الشعب في اسرائيل بأنّ الخطر القادم سيكون اصعب وأشرس من السابق. فاسرائيل بثت سيناريوهات تشير إلى مخططات حزب الله باحتلال مستوطنات ومواقع عسكرية اسرائيلية في الجليل. بمعنى آخر، لأول مرة ترسم اسرائيل سيناريو اجتياح المقاومة حدودها مع لبنان نحو الجليل. طبعًا، هذا السيناريو يقض مضاجع الاسرائيليين عمومًا، وخصوصا الساكنين في المناطق الحدودية، لدرجة أنهم يُخيل لهم اصوات تحت الأرض...
الخلاصة التي يمكننا الاشارة إليها هنا إلى أن اسرائيل 2016 ليست كما كانت في 2006. وأن قدرات وطاقات حزب الله تزايدت واتسعت ترسانته الحربية وخبرته في أعقاب مشاركته الفعلية في الحرب في سورية إلى جانب الجيش العربي السوري ودعم الطيران الروسي. وهذه المشاركة تضاف إلى سجل تطوير قدرات حزب الله وتعزيز مكانته في لبنان والمنطقة عمومًا كقوة مقاومة لكل ما يمكن ان يؤدي إلى زعزعة الموقف العربي الثابت بمواجهة الموجة الاستعمارية التي تقدها الولايات المتحدة بدعم وتحالف من عدد من الدول الغربية والانظمة العربية الرجعية المتآكلة.
الحرب القادمة ستكون مختلفة كليًا، وبالتالي ما ستفرزه سيكون مختلفا أيضًا... هل ستلد اليام القادمة فرصًا أخرى غير الحرب... هذا ما لا يمكننا جزمه في ظل الظروف السياسية والعسكرية التي تمر بها المنطقة حاليًّا.
[email protected]
أضف تعليق