اثار بيان وقع عليه مائة بروفيسور عربي في بلادنا، يدينون فيه ظاهرة العنف المستفحلة في مجتمعنا، موجة من الانتقادات واتهمهم البعض بالاستعلاء على مجتمعهم، وذلك لأن المبادر او المبادرين، الى هذا البيان، اختاروا ان يجمعوا توقيعات هذه الفئة او النخبة من الأكاديميين العرب، دون غيرهم، على بيان مشترك يندد بظاهرة اجتماعية سلبية. ويعتقد بعض المنتقدين ان غالبية هؤلاء منهمكون في ابحاثهم العلمية بعيدا عن قضايا مجتمعهم، وكأنهم يقولون لهم: ما دخلكم؟ او إعملوا بما تفهمون به، أي في الفيزياء والكيمياء والرياضيات، واتركوا المجال الاجتماعي لغيركم !!.
لم أكن من المنتقدين لهذا البيان، بل من المشجعين له، حتى انني دعوت الفئات او الشرائح المختلفة من مجتمعنا الى الأخذ بهذه المبادرة نموذجا إيجابيا، طامعا ان تعم المجتمع حالة مناهضة للعنف، ولكي يكون موضوع مكافحة العنف هو الشغل الشاغل لعلمائنا ومعلمينا واطبائنا ومحامينا، لصحفيينا وموظفينا الاجتماعيين وباحثينا، لعمالنا وفلاحينا وتجارنا وطلابنا، لشيوخنا وشبابنا وصغارنا، لنسائنا ورجالنا...الخ . وما المانع في ذلك؟ وإذا كان عددٌ من البروفيسوريين العرب منشغلين في ابحاثهم العلمية فعلا، فماذا يضيرنا ان يلتفتوا، ولو لبرهة من الزمن، الى قضايا مجتمعهم، وان يعبروا عن مواقفهم الإيجابية في حياة المجتمع؟ وما المانع ان تتوفر للغالبية العظمى منا فرصة التعرف على حقيقة وجود اكثر من مائة بروفيسور عربي في بلادنا شقوا طرقهم العلمية بجهد كبير، رغم كل الصعوبات والعقبات التي وضعتها وتضعها المؤسسة الحاكمة امامهم، وصمدوا امام كل الاغراءات وبقوا في وطنهم وبين أهلهم، ومنهم من يخدم مجتمعه بوعي وادراك لدوره الوطني في ارتقاء جيل عربي جديد الى مرتبات العلم والمعرفة، ومنهم من يساهم في تطوير مؤسسات علمية هنا في قرانا ومدننا لا تقل أهمية من المؤسسات الاجتماعية او السياسية التي تحولت الى دكاكين حزبية رخيصة.
في الأسبوع ذاته، توفي العالم ذو الأصل المصري، بروفيسور احمد زويل، في الولايات المتحدة، ولم ننسى تلك الحقيقة المؤلمة ان نتاجه العلمي، الذي حصده في الولايات المتحدة، لم يخدم مجتمعه المصري او العربي عامة، بل خدم إسرائيل في حربها العدوانية المستمرة ضد امتنا العربية وضد شعبنا الفلسطيني بشكل خاص. وكانت إسرائيل قد استغلت براءاته العلمية الريادية في علوم الليزر لتوجيه صواريخها نحو اشقائنا في قطاع غزة وجنوب لبنان، وتقتل الآلاف منهم خلال العقدين الأخيرين. ولم اخف موقفي المستاء من هذا الاستغلال، ونقلت هذه الاخبار مرفقة بصورة للعالم احمد زويل مع رئيس دولة إسرائيل آنذاك عيزر وايزمان ووزيرة العلوم آنذاك ( 1994) شولاميت الوني وآخرين، الذين قدموا له جائزة اسرائيلية تكريما لبراءاته العلمية التي استفادت منها إسرائيل، ولكنني مع ذلك لم أكفره، ولم أدعُ الى عدم الترحم عليه، كما فعل بعض المتأسلمين والمتأسلمات في مصر.
تقول بعض التقارير الصحفية انه عندما سُئل زويل عن هذه حقيقة خدمته العلمية لاسرائيل رد بالقول: "ان العلم لا وطن له". هل حقا؟ ولكن، هو العالم العربي الوحيد من يقدم خدمة علمية لقوات الاحتلال الإسرائيلي؟ وماذا لو رفض او تُستخدم براءاته العلمية في تطوير الأسلحة الإسرائيلية؟ هل يبقى على قيد الحياة؟ ولماذا لا تقوم "الأمة العربية" وانظمتها السياسية او ملوكها وامراؤها ورؤساؤها، باحتضان علمائها بدلا من تحول براءاتهم العلمية في خدمة اعدائهم؟ ومن هو المسؤول عن هذه المأساة التي يعيشها العلماء العرب؟
استوقفني هذان الحدثان للنظر من جديد في ظاهرة هجرة العلماء العرب في الشرق الأوسط الى أوروبا وامريكا وباقي الدول المتقدمة، وكنت وما أزال اتابع اخبار وتقارير هذا النزيف العربي المتواصل منذ عقود، واتوقف عند اغتيال عشرات العلماء الذي بقوا في اوطانهم او شك المستعمر انهم ينوون العودة الى بلادهم لخدمة شعوبهم. ولا بد من التذكير ان الموساد الإسرائيلي كان له الدور الأبرز سويا مع أجهزة المخابرات الامريكية خاصة والغربية عامة، في اغتيال أسماء علمية فمن المستوى العالمي، مصرية وعراقية وايرانية وسورية ولبنانية وفلسطينية، ولا استطيع ان انسى حقيقة اغتيال العلماء العراقيين في اول حملة عسكرية شنتها الولايات المتحدة على العراق، وان المطلب الأمريكي بتسليم قائمة العلماء للولايات المتحدة ورفض صدام حسين لهذا الشرط، هي ما افشل المفاوضات الأخيرة بين صدام حسين وجورج بوش عام 2003. كما انني لا استطيع ان انسى اغتيال عالم الصواريخ السوري، نبيل زغيب، مع افراد اسرته، في دمشق، صيف 2012، كان من أول عمليات الاغتيال مع بداية العدوان الدولي الداعشي على سوريا. وهذا يؤكد للمرة الالف ام العالِم العربي مستهدف قبل القائد السياسي، إما بالهجرة وخدمة الغرب او بالاغتيال، وفي كلتا الحالتين هو مستهدف.
كانت القدرات العلمية، وما تزال، جزء أساسيا من قوة المجتمع وتطوره ومناعة والدولة، يفهم السياسيون العرب ذلك كما يفهمه الغرب، ولكنهم لا يفعلون شيئا للحفاظ على هذه المؤهلات في اوطانهم، بل يحاصرونها ويحتقرونها ويسببون في هجرتها، لانهم ليسوا اكثر من قطاريز لأسيادهم في الدول الغربية. يقول التقرير الصادر سنة 2011 م عن اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة، إن 50% من الأطباء ، و 23% من المهندسين و 15% من العلماء في البلدان العربية يهاجرون، متجهين بوجه الخصوص إلى أوروبا وأمريكا الشمالية. كما أن ما يقرب من 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم. هذا وتذكر تقارير الجامعة العربية لعام 2014، ان عضو البرلمان المصري المهندس صابر عبد الصادق، سبق وحذَّر من استمرار "هجرة علماء الذرة والبحوث النووية من مصر، وقال في بيانٍ عاجلٍ قدمه لرئيس الوزراء ولوزير التعليم العالي والبحث العلمي حينئذ، إنه طبقًا لآخر دراسة أجرتها أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا هاجر من مصر أكثر من 2 مليون عالم من بينهم 620 عالمًا في علوم نادرة منهم 94 عالمًا متميزًا في الهندسة النووية، و26 في الفيزياء الذرية، و72 في استخدامات الليزر، و93 في الإليكترونيات والميكروبروسيسور، و48 في كيمياء البوليمرات، إضافةً إلى 25 في علوم الفلك والفضاء، و22 في علوم الجيولوجيا وطبيعة الزلازل، بخلاف 240 عالمًا في تخصصات أخرى لا تقل أهمية". اما النتيجة الطبيعية لذلك هي تراجع اضافي لدول العربية براءات الاختراع التكنولوجي في حين تتقدم أوروبا وامريكا وأستراليا وغيرها من الدول، وتشير تقارير منظمة “اليونسكو” إلى هذا التدني العلمي العربي مقابل إسرائيل ودول العالم الأخرى، حيث يشير أحد هذه التقارير إلي انخفاض نصيب الدول العربية من براءات الاختراع التكنولوجي على مستوى العالم، فيما بلغ نصيب أوروبا من هذه البراءات 47.4 وأمريكا الشمالية 33.4% واليابان والدول الصناعية الجديدة 16.6%. وتستفيد من ذلك إسرائيل بصفتها شريكة للبحوث العلمية في أوروبا OECD.. فهل كل هؤلاء لا يحبون اوطانهم؟ وهل هم خونة؟ ام ان أنظمة الحكم التي لا توفر لهم سبل التطور والابداع هي المسؤولة عن تحول ابداعاتهم في خدمة اعدائهم؟ كما كانت عليه حالة احمد زويل. من هنا، ولكي لا يتحول علماؤنا الى عملاء ، لا بد من احتضانهم وتعميق انتمائهم الى مجتمعهم وشعبهم، وإلا لن يكون بيننا وبين الأنظمة العربية المهترئة فرق يذكر.
[email protected]
أضف تعليق