في عصر غير مألوف أو غير معتاد في ثقافتنا، نحاول أن نلحق بركب الحضارة شكلا، وخاصة في استخدام الأجهزة التي يطلق عليها أسماء عديدة، ولا أدري أي منها صائب وأي خائب، مثل الأجهزة الخلوية أو الذكية أو الألكترونية، وهي من نتاج الحضارة الحديثة أو التطور العلمي السريع والاختراعات الحديثة التي لم نكن نحلم بها في أيام طفولتنا وشبابنا، وان حلمنا اعتبروها هوسا أو ضربا من الجنون.
في هذا العصر الألكتروني يأتينا على سبيل المثال خبر من أقصى شرق الأرض من اليابان، يفيد بقتل مجموعة من ذوي الاحتيجات الخاصة في أحد المراكز هناك بعد لحظات من وقوعه، وننشغل به هنا ونتبادله من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي والجماهيري.. وأفاجأ من زائر الى اليابان في نفس الأسبوع، بأنه لم يسمع عن الحادثة خلال مكوثه هناك من أي وسيلة اعلام يابانية، بل عرف عنه من أحد المواقع الاسرائيلية.
يهزنا خبر قادم من فرنسا عن ذبح كاهن في كنيسة من قبل متطرفين ينتميان لتنظيم تكفيري يدعي الانتماء الاسلامي، وينفذان الذبح على صيحات التكبير كما جرى قبل ذلك في حمص من ذبح لطفل فلسطيني على يد مجرمين من ذاك الصنف والانتماء.. وقبل ذلك ننشغل الى حد الجنون والخروج عن العقل بخبر محاولة الانقلاب المشبوهة التي وقعت في تركيا، وننقسم بين مؤيد ومعارض، وتعلو لهجة التخوين والتكفير، ويصبح أردوغان مثالا وبطلا ورمزا لغالبية الناس العرب، الذين عانى أجدادهم من ظلم الأتراك وسلاطين الأتراك أيام السفر برلك والظلم العثماني، الذي ربض على صدور مشرقنا العربي لأكثر من أربعمائة عام عجافا.
وفي ظل كلّ ذلك يمر خبر وفاة بطل العالم السابق في الملاكمة محمد علي كلاي، الذي أشغل العالم في ستينات وسبعينات القرن الماضي، يمر خبر وفاته وكأن شيئا لم يكن، لأن جيل الواتس أب والآيفون والفيس بوك، لم يعاصر زمن الصحيفة والمذياع واللسان. رحل بهدوء ذاك الذي صرخ في يوم من الأيام "أنا الأعظم"، وسواء كان محقا في ذلك أم لا، لكنه كان أحد عظماء ذلك العصر على الاطلاق، وقد توفي في 4 حزيران الماضي عن عمر 74 عاما.
في منتصف ستينات القرن الماضي ( وما أدراك ما الستينات!)، حين كنا نحبو في الوعي السياسي، ونسترق السمع للكبار، سمعنا في العام 1964 باسم جديد تتناقله الألسن، انه محمد علي كلاي، وفهمنا أنه ملاكم أمريكي وأن اسمه الحقيقي كلاسيوس كلاي، لكن استبدل اسمه بعدما اعتنق الاسلام، وذلك احتجاجا على الحرب الاستعمارية التي تشنها بلاده على بلد فقير وصغير في شرقي آسيا يدعى فيتنام، وأن محمد علي رفض المشاركة في هذا العدوان. وكم كان فخرنا كبيرا بهذا الانسان الحر، وبات رمزا بالنسبة لنا وأخذنا نتابع بطولاته ونفرح عندما يكسب مباراة ونحزن عندما يخسر. وكم كنا سعداء بحركاته وضرباته المحكمة والقوية التي يصوبها لخصمه، وهو "يرقص كالفراشة ويلسع كالنحلة" كما كان يحلو له أن يردد، ويردد خلفه المعلقون والمعجبون.
وزاد اعجابنا بمحمد علي كلاي عندما حضر الى القاهرة، يوم أن كانت عاصمة العروبة وحركات التحرر العالمية وقبلة المظلومين والمتطلعين الى الحرية، وقابل الرئيس والقائد العربي الكبير جمال عبد الناصر. وواجه كلاي كل العنصريين والاستعماريين قائلا لهم " لا أرغب في أن أكون ما تريدني أن أكون، اني حر في أن أكون ما أريد". وفعلا أصبح محمد علي ما يريد، وبات رمزا لكل أحرار العالم ومناضليها ضد الاستعمار وفي سبيل حرية الشعوب.
يومها كان اعتناق الاسلام وهتاف "الله أكبر" رمزا للحرية والتقدم ومحاربة الاستعمار والعبودية.. كان هتاف "الله أكبر" يتردد عبر الاذاعات العربية وفي الأغاني الوطنية، ونردده كهتاف ضد الاحتلال والعدوان ومن أجل تحرير الأرض والانسان. هكذا كنا مسلمين ومسيحيين منصهرين في القومية العربية، التي حملت لواء الوحدة القائل "وتآخينا هلالا وصليبا" ونقسم القسم الواحد الموحد "أحلف بقرآني وانجيلي".. هذا ما عشناه في عصر القومية العربية، في عصر عبد الناصر.. أما اليوم وللأسف بتنا نخجل ونهرب عندما نسمع هتاف "الله أكبر" من أحد التكفيريين الظلاميين وهو حاملا أداة قتل وينفذ عملية ارهابية.. بعدما جعلوا ذاك الهتاف التحرري، هتافا للقتل والارهاب والاجرام، بذبح الأطفال والنساء والشيوخ على مرأى ومسمع العالم وصمت منظمات حقوق الانسان والدول التي تدعي الديمقراطية!
أهذا هو العصر الذي بشرنا به أعداء القومية، أهذا هو "الربيع العربي" المزعوم المخضب بدماء الشعوب عبثا؟ لقد هزئوا وسخروا من "حكم العسكر" والحكام الذين جاءوا على "دبابة"، في اشارة منهم الى الأنظمة القومية الحديثة والجمهوريات التي قامت في النصف الثاني من القرن الماضي.. لقد ثبت أن تلك الثورات التي نفذها الجيش بارادة الشعب، دون اراقة دماء وقتل وتدمير، أفضل ألف بل مليون مرة من أنظمة ممسوخة، وثورات مشبوهة، وزعرنات مفضوحة تعيث فسادا في وطننا العربي، وتجعله قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب خدمة للخارج وللغرب خاصة.
لذا ليس غريبا أن يرحل الرمز محمد علي كلاي مقهورا ومهزوما، بعدما أعاده الظلاميون والتكفيريون الى أصله "كاسيوس كلاي"، وهو الذي تحدى الغرب في عقر داره يوم كان الاسلام عنوان التحرر والتقدم والعنفوان.
[email protected]
أضف تعليق