عنوان هذه المقالة مأخوذ من قصة شعبيّة طريفة تُحكى على سبيل المزاح لوصف العلاقة "التنافسية" بين هاتين المدينتين العريقتين. تستند القصّة على الادّعاء بأن أهل اللد يضمرون الحسد لأهل الرملة بسبب وجود الجامع الأبيض ذي الفنّ المعماري المميّز الذي بناه سليمان بن عبد الملك في الرملة. وتطورت الحكاية الشعبية ، بروايات متعددة، إلى حدّ اتهام أهل اللد بمحاولة سرقة مئذنة الجامع الأبيض. فيقال – والله أعلم- أن تجارًا من اللد قد استراحوا في طريق عودتهم من أرض مصر في ساحات المسجد الأبيض في الرملة. وخلال استراحتهم دار بينهم حديثُ إعجابٍ بالمئذنة المربّعة الشكل والتي تختلف عن باقي المآذن الاسطوانيّة المعروفة في بلادهم. ودار بينهم جدال عمّا إذا كان ارتفاع المئذنة مساويًا لمحيطها كما يقال. فقرروا فحص الموضوع. أخرجوا حبلًا وأحاطوا به المئذنة المربّعة لقياس محيطها ومقارنته بعد ذلك بارتفاعها. ويقال – إضافة إلى هذه القصة المعقولة حتى الآن- أن شخصًا بسيطًا من بينهم قد شدّ الحبل بقوّة فتمدّد الحبل قليلًا لأنه مصنوع من مادّة مطاطيّة. ظنّ التاجر البسيط أنّه بذلك يسحب المئذنة فصار يصيح لرفقائه "شدّ شدّ قرّبت الرملة ع اللد". ويضاف إلى القصة أن بعض أهل الرملة رأوهم يشدون المئذنة بالحبل فظنّوا أنهم يقومون فعلًا بسحبها محاولين سرقتها.

يبدو أن التنافس بين اللد والرملة قد بدأ منذ تأسيس الرملة. ففي عام 636 م أستلمت الجيوش العربية الإسلامية بقيادة عمرو بن العاص، أيام الخليفة عمر بن الخطاب، مدينة اللد من ايدي البيزنطيين صلحًا. ونظرًا لموقعها الجغرافي في وسط فلسطين، على مفترق الطرق الرئيسيّة فيها، فقد اتخذها العرب عاصمة عسكريّة واداريّة لهم في جند فلسطين ومقرًّا لوالي فلسطين، وبقيت اللد هكذا مدة 82 عامًا إلى أن قام سليمان بن عبد الملك سنه 715 م ببناء مدينة الرملة وجعلها عاصمة جند فلسطين بدلا من اللد، ونقل جميع المؤسسات إليها، فأهملت اللد وهجرها عدد كبير من سكانها الى مدينة الرملة. وقد بقيت الرملة عاصمة لفلسطين نحو 400 سنة إلى أن احتلها الفرنجة عام 1099. فالتنافس بين اللد التي يمتد تاريخها إلى حوالي ثمانية آلاف سنة والرملة ابنة 1300عامًا ولكنها عاصمة فلسطين لأربعة قرون، قائم كما يبدو منذ ذلك الحين.

حتى في أحداث النكبة يمكن أن نجد عناصر تنافسية بين البلدين، لكنها هذه المرّة تنافس على حجم المأساة.
تموز 1948 كان تموز أسود. الأيام التي بين 9-18 تموز من عام 1948 كانت العشر الأوائل من رمضان. وكانت تلك أيضًا العشر الكواسح في نكبة فلسطين. عشرة أيام سمّيت معارك الأيام العشرة، بين الهدنة الأولى والهدنة الثانية التي اتفق عليهما بين دولة إسرائيل الوليدة ودول عربيّة مجاورة ادّعت أنها تحركت لتحرير فلسطين. خلال الأيام العشرة تلك واصلت إسرائيل احتلال أجزاء واسعة إضافيّة من فلسطين. خلالها سقطت الناصرة وسقطت اللد وسقطت الرملة، وما حولها. سقطت طيرة الكرمل وجبع وعين غزال. كانت تلك أيامًا عصيبة على أجزاء من فلسطين لم تكن مغتصبة بعد. رائحة الموت، دموع القهر، همّ الهزيمة ومرارة التطهير العرقي تعتصر قلوب الرجال والنساء والأطفال في اللد والرملة والكرمل والجليل.

في منطقة المركز شرعت القوات الإسرائيليّة بعمليّة عسكريّة كبيرة تحت اسم "داني". وكانت المواقع المستهدفة بهذه العمليّة قد اختصرت بالعبرية بكلمة واحدة هي (לרל"ר) لرلر: اللد، الرملة، اللطرون، رام الله. كل هذه المناطق، كما الناصرة، كانت ضمن "الدولة العربية" المقترحة في قرار التقسيم، (لمن يهمه الأمر). لكن اللطرون ورام الله لم يسقطا في تلك الحملة وإنما تمّ احتلالهما لاحقًا عام 1967.
بدأ الإسرائيليّون باحتلال القرى المحيطة لمدينتي الرملة واللد في 10 تموز 1948 ونجحوا بتطويق المدينتين من كل الجهات، وقصفوهما بالمدفعية والطائرات. وألقت طائراتهم منشورات على أهالي اللد والرملة صباح 11 تموز تدعوهم إلى الاستسلام، وإن فعلوا فلن يصيبهم أذى. وقد ثبت بعد ذلك أن هذا الوعد كان كاذبًا إذ توجّه وفد من الرملة، بعد سقوط اللد التي كانت تعتبر مركز المقاومة، وبعد انسحاب الكتيبة الأردنيّة التي كانت من المفترض أن تدافع عن الرملة، توجّه إلى القيادة الإسرائيليّة ووافق على تسليم المدينة سلمًا مقابل منح الأمان لأهالي الرملة، إلا أن الإسرائيليّين لم يوفوا بالوعد وطردوا الغالبية الساحقة من أهالي الرملة كما فعلوا في اللد.

كثفت القوات الإسرائيلية جهودها لاحتلال اللد. فبعد فشل الهجوم الأول الذي خرج من قرية دانيال في ظهيرة 11 تموز انضمت الكتيبة رقم 8 بقيادة يتسحاق سَديه وموشِه ديّان إلى كتيبة يفتاح، وكلتاهما من سرايا البلماح، وشنّوا هجومًا قويًّا مباغتًا في الساعة 16:00 من 11 تموز خرج من مستعمرة بِن شيمن مخترقين المدينة من شرقها إلى غربها في قافلة من المدرّعات وهي تطلق نيرانًا كثيفة في كل اتجاه زارعة الموت والرعب في صفوف المواطنين. انسحبت القوات الأردنيّة وضعف موقف المقاومين من أبناء المدينة فتمكّن الإسرائيليّون بعتادهم وتعدادهم من السيطرة على اللد. لم ينتهِ الأمر بإخضاع المدينة عسكريًّا، وهذا ما نقصده عندما نتحدّث عن معنى النكبة. لم يكن المقصود من الاحتلالات الصهيونيّة هو درء الخطر العسكري فحسب بل أيضًا التخلص من المدنيين الفلسطينيين وإستئصالهم من الحيّز.

ما اقترفه الإسرائيليّون في اللد والرملة، وفي اللد تحديدًا، هو وجبة مركّزة ومكثّفة من فصول النكبة. بدءًا بخدعة الاستسلام مقابل الأمان، مرورًا بهجوم عسكري كبير ثم تطهير عرقيّ منظّم ومجزرة بشعة داخل مسجد وحرق جثث الضحايا ونهب محتويات البيوت العربية وتركيز الأهالي الناجين في جيتو محاط بالأسلاك الشائكة، فالاستيلاء على المنازل الفلسطينيّة وإسكان عائلات يهوديّة فيها ومنع عودة اللاجئين إلى مدينتهم، فتهويد المدينة وأسرلة هويتها، وصهينة أسماء شوارعها ومرافقها، بل تعمّد الإيلام والشماتة بالفلسطينيين من خلال تلك المسمّيات، لدرجة تسمية الساحة التي أمام مسجد دهمش في اللد بساحة "البلماح" على اسم الكتيبة التي اقترقت المجزرة هناك.

لم يشفع مسجد دهمش لمئات المواطنين الذين اختبئوا فيه خوفًا من القتل. ويشهد أحد عناصر البلماح اسمه يرحميئل كهنوفيتش (1929( من كيبوتس دجانيه أ في مقابلة أجراها معه إيال سيفان أن يجئال ألون أعطاه أمرًا أن يطلق قذيفة من نوع "بيات Piat" إلى داخل المسجد ففعل. ويقول إنها مزقت كل من كان داخل المسجد. ويشهد مقاتل آخر اسمه بنيامين عيشت أنّ جنودًا إسرائيلين قاموا بإعدام شبّان فلسطينيين بعد أن أمروهم بدفن الجثث المتناثرة في الشوارع. وأُمر رجال اللد والرملة المعتقلون داخل الجيتو بتجميع الجثث التي بدأت بالتعفن من مسجد دهمش في المقبرة وحرقها هناك.

إن نهاية الأعمال العسكرية لم تعنِ نهاية المعركة في الفكر الصهيوني. أعطى دافيد بن غوريون أمرًا بطرد أهل اللد والرملة. ولم يتبقَّ من أهل اللد سوى ألف شخص من بين حوالي 20 ألفًا وحوالي 20 ألف لاجئ فلسطيني قد نزحوا إلى اللد عند احتلال قراهم وطردهم منها. ومن بين أهل الرملة الـ 18 ألفًا بقي حوالي 3 آلاف فقط. فكان مصيرهما واحدًا في هذا الصدد. بعد السقوط في 11-12 تموز استمر الطرد على مدى عدة أيام. طوابير طويلة من اللاجئين تسير من الرملة إلى رام الله. ويقدّر أن حوالي 300 شخصًا من اللد قد لقوا حتفهم في درب اللجوء بسبب التعب والعطش وشدّة الحرّ.

في مثل هذه الأيام، نهاية تموز 1948، بدأت العشر الأواخر من رمضان النكبة. اللاجئون من الرملة واللد يلملمون جراحهم ويبدأون مأساتهم في اللجوء مع عيد الفطر الذي لا نعلم كيف قضوه، ولكننا نعرف أنهم ما زالوا حتى اليوم ينظرون من هناك إلى يوم عودتهم. ومن أجل العودة ومن أجل المستقبل، عليهم اليوم أيضًا أن يشدّوا. ولكن بدلًا من الشدّ التنافري لا بدّ لهم – ولكل فئات هذا الشعب- من الشدّ التآزري، وأن ننادي بعضنا شِدّ شدّ شِد- حتى تعود الرملة وتعود اللد.


 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]