من القائل وما المناسبة؟ نستعير تلك اللازمة في أسئلة المستمعين الى العلامة الراحل حسن الكرمي، في برنامجه الإذاعي الشهير في الـ «بي بي سي» باللغة العربية «قول على قول». ونعرف بعد مُضيّ هذا الزمن الطويل أن ملوكاً ورؤساء عرب كانوا يتابعونه من بينهم الملك المغربي الحسن الثاني، والملك فيصل بن عبد العزيز وحتى جمال عبد الناصر. وهكذا ما المناسبة ومن القائل؟ ان القائل الأسبوع الماضي هو افيغدور ليبرمان.
قال ليبرمان إن مصر هي اليوم أهم حليف لإسرائيل في الشرق الأوسط، وان معيار علاقتنا بتركيا يعتمد على هذه القاعدة أي أولوية التحالف مع مصر، بما في ذلك المساعدات التي تقدم لغزة. أما المناسبة فإن هذا الكلام يرد او يقال للمرة الثانية في غضون السنوات القليلة الماضية، المرة الأولى في ذروة الثورة الشعبية على حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، على لسان دافيد بن اليعازر الذي قال فيما يشبه الأسف على رحيل مبارك ما باتت العبارة الشهيرة: «لقد كان حسني مبارك كنزاً إستراتيجياً لإسرائيل».
أما اليوم فان هذا القول كأني به يراد ان يمحو من الذاكرة أو يصحح قولاً شهيراً آخر للرجل القائل ليبرمان زمن مبارك نفسه، حينما هدد مصر بقصف السد العالي، ولهذا الدافع ربما حَرِص ليبرمان ان يقرن قوله الأخير عن التحالف الجديد، بانه هو شخصياً اسهم او لعب دوراً نشطاً في التوصل الى هذه النتيجة، أي بناء هذا التحالف الهام مع النظام الجديد في مصر.
والواقع أن هذا القول لا يأتي فقط بعد نجاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في القضاء على الانقلاب ضد حكمه، ولا يخفى هنا على أحد أن لا نتنياهو ولا ليبرمان معجبان بالزعيم القوي لتركيا، وكانوا يتمنون لو تم القضاء عليه وعاد العسكر الى الحكم وتم تفكيك تركيا وإغراقها في حروب أهلية طائفية لا تنتهي. وإنما يأتي هذا القول بينما كان يحدث تطور آخر ربما لا يقل دلالة في مغزاه السياسي على هذا الصعيد المتعلق بعلاقات إسرائيل الجديدة في الإقليم. وهذا التطور الذي لا يزال يثير الجدل يتمثل بالزيارة التي قام بها على نحو نادر الحدوث لأول مرة، اللواء المتقاعد والباحث الإستراتيجي المقرب من الحكم في السعودية أنور عشقي، الى الضفة الغربية واللقاءات التي عقدها الرجل بصفته غير الرسمية مع إسرائيليين، وإنما كرئيس لمركز دراسات إستراتيجية. وهو ما فُهم من هذه الزيارة واللقاءات التي جرت على هامشها كإيماءة سعودية لا يمكن الخطأ في قراءة وتحليل مغزاها. فهل كانت أقوال ليبرمان في هذا السياق رداً مدروساً ومقصوداً بطريقة غير مباشرة، ولكن كجزء من التفاوض غير المعلن مع السعودية، وبأسلوب الإيماءات والمناورات السعودية الغامضة نفسها؟ بحيث يقال لا على لسان نتنياهو وإنما ليبرمان المعروف بإثارته أيضاً للجدل، ان مصر هي الأهم وهي التي تكفينا اذا كنتم مصريين على عدم تعديل المبادرة العربية للسلام.
هل نشهد الآن إذن ما يمكن وصفُه بإزاحة الستارة عن فصل افتتاحي او تمهيدي من المفاوضات، التي تقودها قوى إقليمية عربية وإسلامية من اجل التوصل الى ما بات يطلق عليه بالتسويات الإقليمية مع إسرائيل، وإدماج إسرائيل في المنطقة انطلاقاً من البوابة الفلسطينية، وحيث يقال ان أول الرقص حجلان؟ وانه لهذا السبب يمكن اعتبار نتائج القمة العربية الأخيرة في موريتانيا مهمة فلسطينية، اقله لأنها ثبتت هذه «الاشتراطية» او المبدأ القاضي بعدم جواز تعديل المبادرة العربية للسلام، وفي الوقت نفسه إعلان القمة تأييدها المبادرة الفرنسية. وذلك لقطع الطريق وتطويق أي محاولة إسرائيلية للقفز عن كلا المبادرتين باعتبارهما يكملان الواحدة الأخرى، وان هذا هو الإطار الوحيد والممر الوحيد المطروح لعقد التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، كشرط لعقد التسوية الإقليمية الأكبر والأشمل. والواقع انه بعيدا عن الرهان الإسرائيلي وهو هنا لا يعدو ان يكون سوى وهم، ان تستطيع إسرائيل اختراق هذه المعادلة بالفصل بين التسويات الإقليمية والتسوية الفلسطينية، او إفشال عقد المؤتمر الدولي للسلام قبل ان يعقد، فإن الحديث لا يجري عن لاعبين صغار او دويلات طائفية يمكن لإسرائيل أن تتلاعب بها، وإنما يتم الحديث عن دول إقليمية محورية والمقصود هنا مصر والسعودية وتركيا. والراهن انه اذا كانت مصر وتركيا تقيمان أصلا هذه العلاقة والسلام مع إسرائيل، فإنه لا مصر ولا تركيا تستطيع القيام بلعب هذا الدور الأكبر، أي بجلب الإقليم بمعناه الأوسع والأشمل لعقد السلام مع إسرائيل بدون السعودية. وان السعودية اللاعب المركزي الحقيقي في هذه القصة، لا يمكنها ان تلعب هذه اللعبة لا على طريقة الحل المنفرد الذي عقده السادات، ولا السعودية هي تركيا بإرثها القديم في العلاقة مع إسرائيل، كما عضويتها في حلف الناتو. وليس صحيحاً ان السعودية على عجلة من أمرها للهرولة لعقد السلام مع إسرائيل، لأن الحرب مع إيران على الأبواب.
ولكن الصحيح أو القاعدة هي الآتي: اذ حتى أنور السادات وهو في ذروة مفاوضاته منفرداً لعقد السلام مع إسرائيل، كان أصر أولاً على حضور عرفات والمنظمة، وحين رفض عرفات ذلك خشية من حافظ الأسد وصدام حسين، فإن السادات أصر على التوصل الى اتفاق يشمل حكماً ذاتياً للفلسطينيين. واليوم فإن عبد الفتاح السيسي الذي يختلف عن السادات ومبارك، يربط دفء السلام مع إسرائيل بحل القضية الفلسطينية. وفي السياق فإن العاهل الأردني الملك حسين لم يوقع اتفاق «وادي عربة» مع إسرائيل الا بعد توقيعنا نحن الفلسطينيين اتفاقية أوسلو. وحين وقع الرئيس اللبناني امين الجميل اتفاقية مع إسرائيل العام1983، الاتفاق الذي اسماه حافظ الأسد باتفاق الإذعان، فإن هذا الاتفاق ولد ميتاً. وكتبتُ ذات يوم شخصياً العام1992 في صحيفة «الحياة» اللندنية في ذروة مفاوضات واشنطن المنبثقة عن مؤتمر مدريد، ان سورية هي آخر من يوقع اتفاق السلام مع إسرائيل.
وهذا هو مأزق إسرائيل في الواقع في اتفاق الغرب والشرق على عدم تجاوز عقدة العقد لإرساء السلام، والقضاء على الإرهاب من دون حل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال. فما هي الأولوية اذن؟ ويجيب ليبرمان نفسه باقامة وانشاء المزيد من ملاعب كرة القدم في الضفة الغربية لإلهاء الشباب الفلسطيني عن القيام بأعمال عنف، وهو جواب في هذا السياق والتوقيت: إما انه ينطوي على الدعابة او الهزر والمزاح، وإما انه ينطوي على الخبث. إذا كان الوفد السعودي قد أقدم على هذه الزيارة او الإيماءة بتغطية رياضية، ولكن إذا كان الحال كذلك وهذه الإيماءة السعودية ذات مغزى ولها أهمية، فلماذا اللعب على الأزمة بين مصر وتركيا بهذه الطريقة المفتعلة والأسلوب الفج؟ اللهم إلا إذا كان هذا التصريح إنما القصد منه الرد غير المباشر على ما قاله اللواء السعودي المتقاعد أنور عشقي، ولم يرق للإسرائيليين هذا القول على القول السعودي نفسه العام 2002، حينما اطلق الملك الراحل عبد الله ما اصبح يعرف بالمبادرة العربية، لا اكثر من ذلك ولا اقل. وهو قول لا يتجاوز او يقفز على قول الفلسطينيين، وليرحم الله حسن الكرمي صاحب هذه العبارة «قول على قول».
المصدر: الايام
[email protected]
أضف تعليق