في بداية سبعينيات القرن الماضي، ما زلت أذكر تجمعات الرجال، بعد ساعات العصر، أمام بقالة في الحي الذي نقيم فيه، وكثيراً ما كانت حدّة النقاش تعلو لتصل إلى حدّ الصراخ، خاصة في القضايا السياسية. ولكن عندما يصل النقاش إلى موضوع يخص الدعم السوفياتي إلى الدول العربية، وتزويد دول المواجهة بكل ما هو ممكن في حينه، كان الحوار يُجمع على أن الاتحاد السوفياتي هو حامي الحمى، وهو في لحظة ما سيحارب عن العرب لتحرير فلسطين. لا أدري كيف كان الجميع يعتقد أن الجيوش السوفياتية ستقود المعارك المقبلة مع «العدو الصهيوني» وستنهي دولة الاحتلال. جميع الرجال الذين كنت أذكرهم في «جمعات» ما بعد العصر رحلوا... وأيضاً رحل الاتحاد السوفياتي بعد شيخوخة أصابته بالشلل، ثم الانقسام... ولكن لم تتحقق أحلام اليقظة ولم يُحرّر الاتحاد السوفياتي فلسطين.
عندما أتذكر تلك النقاشات أعتقد كم كانت ساذجة وبسيطة ولا تعدو كونها محاولة غريق للتمسك بقشة. وعلى الرغم من ذلك، كنا نحبّ الاتحاد السوفياتي؛ لأنه على الأقل مؤيد لقضيتنا الفلسطينية وداعم لا يستهان به في حينه. وعندما انتصرت ثورة الخميني، بدأت الجماهير تهلّل له على اعتبار أنه المنقذ والمخلّص، خاصة أنه حمل شعار «الموت لإسرائيل والموت لأميركا»، وهذا الشعار ما زال يتردد في كل جمعة أخيرة من شهر رمضان أو يطلق عليه الإيرانيون «يوم القدس».. وهكذا وجدت ثورة الخميني أنصاراً ومدداً كبيراً، وتغلبت العواطف على العقل والمنطق. هل صحيح أن الخميني كان يريد تحرير فلسطين فقط ؟! هل ستكون الطريق إلى القدس عَبر تصدير الثورة إلى الدول المجاورة، خاصة التي تواجدت فيها أغلبية شيعية. كثير من الذين صفّقوا لثورة الخميني في حينه، يدركون اليوم أن النتائج كانت كارثية على المستوى القومي العربي، وكيف أن دولاً محورية كالعراق سقطت في فوضى الطائفية التي جلبتها ثورة الخميني. وتكررت التجربة مع تركيا.. فقد كان العسكر الأتراك غير محبوبين عند كثيرٍ من دول المشرق العربي.. على اعتبار أن العسكر هم من جاؤوا على جثّة الخلافة الإسلامية، أو حكم السلاطين.. حيث إن المناهج المدرسية والجماعات الإسلامية خاصة «الإخوان المسلمين» و»حزب التحرير»، يؤكدان أن كمال أتاتورك ضابط يهودي قاد انقلاباً ضد الخلافة الإسلامية؛ لأن السلطان عبد الحميد كان رافضاً إقامة وطن قومي لليهود على الرغم من كل الإغراءات.
مررنا بعقود من التجهيل عن تركيا.. سوى نقطة أساسية وهي علاقات عسكرها مع إسرائيل. مشكلتنا نحن الفلسطينيين والعرب بشكل عام أننا عاطفيون لدرجة أن نُحيّد عمل العقل والفكر في مقابل المشاعر. نحب بشكل مطلق ونكره بشكل مطلق.. لا نفهم ولا ندرك لغة المصالح في اللعبة الدولية. خلال عقد من الزمن، تمكّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من دغدغة مشاعرنا، ولعب على وتر حسّاس وهو الدين وإن كان بطريقة غير مباشرة. فجأة شعرنا أن الحليف الأول لنا في المنطقة هو أردوغان، واعتبرنا أن التغيرات في تركيا بداية خير لزوال الاحتلال.. وأصبحت صور أردوغان ترفع في الشوارع الفلسطينية، خاصة في قطاع غزة. عندما فاز بالانتخابات وزّعت الحلوى في كل مناطق القطاع وفي الضفة أيضاً.. وحركة «حماس» صوّرت الوضع على أن المخلّص أصبح حقيقة. وفي الأيام الماضية، نجد أن النقاشات التي تسيطر على الفلسطينيين في المنازل والمكاتب والمؤسسات بكافة أشكالها هي الانقلاب الفاشل في تركيا وانتصار أردوغان، وقد وصل الأمر إلى خروج مسيرات الدعم والتأييد للسلطان الجديد. نعم، نحن نحب تركيا، ونحب أن نرى ديمقراطيتها تتحقق بشكل كامل.. نرفض مبدأ الانقلابات العسكرية، ونعتبر أن هذا النهج ولّى دون رجعة، ونعتبر أن من قام بهذا الانقلاب الفاشل هو الذي تسبب بهذا الوضع. ولكن، أيضاً، لا نريد أن نرى انقلاباً أخطر من الانقلاب العسكري.. لا نرغب في أن نرى تركيا تسير نحو دكتاتورية من نوعٍ آخر، ستؤدي في النهاية إلى ثورة شعب، وليس ثورة عسكر.
أردوغان ليس خليفة، وإن راودته أحلام السلاطين، ومصالح تركيا القومية فوق القضية الفلسطينية، وإن وصلت سفينة مساعدات أو أكثر إلى غزة.. وربما علاقات أنقرة مع إسرائيل أهمّ بكثير من علاقاتها مع فلسطين.. وهذا حق لهم لأنهم يعرفون مصالحهم. يجب ألا نبالغ بالبهجة والفرح.. لأن التعاون العسكري التركي ـ الإسرائيلي سيعود كما كان.. وتصريح المسؤولين الأتراك وشكرهم لتل أبيب وللحكومة الإسرائيلية.. يجب أن يوقظ فينا حسّ العقل وأن يحدّ ولو بقدرٍ ما من السير والركض نحو عواطفنا القاتلة. نعم لتركيا حليفة، ونعم لعلاقات متوازنة، ولكن لا لسلطة رجل واحد لا نرغب فيها بأي مكان في العالم؛ لأنها ليست من مصلحتنا في المرحلة النهائية؟!!
المصدر: الأيام
[email protected]
أضف تعليق