هناك عادة باتت مزمنة في الدراما العربية عامّةً، وهي تكملة كتابة بقيّة حلقات المسلسل خلال تصويره، أو تجد ذلك الممثل مرتبطًا بتصوير أكثر من عمل درامي، كي تتمكّن إحدى أعماله من دخول قائمة المسلسلات التي ستُعرض على القنوات الفضائيّة في رمضان، وكأن مسلسله سيحصل على جائزة "إيمي" الأمريكيّة الشهيرة!! وما يَدفع إلى حدوث هذا الصّراع الإنتاجي الموسمي بين الشّركات، هو اللهاث التّجاري والسّعي المادي اللذان يطغيان على أي عمل، وهذا ما يحصل سنويًّا مع سلسلة "باب الحارة" الشّهيرة، وحصل هذا العام مع عرض الجزء الثّامن منها.

أنا لا أريد التعرّض للأخطاء الإنتاجية التي حصلت في المسلسل، وقد تناولتها مواقع التواصل بسخرية لاذعة، وعقّب عليها بعض المختصين في صناعة الدراما، فهذه الأخطاء الفادحة لم تردع شركة الإنتاج عن الاستمرار بإنتاج مسلسل "باب الحارة"، بهدف الحفاظ على "قُدسيّة" الرّبح المادي!! وبمعنى آخر تحوّلت هذه السلسلة الدراميّة القيّمة إلى قلادة ذهبيّة ثمينة جدًّا، تُعلّقها مجموعة إم بي سي، الرّاعية التمويليّة للمسلسل على عنُق هذا العِجل الذّهبي، لتُبهر المشاهدين بإنتاجها الضّخم، فتُقيم من حوله سنويًّا طقوسًا إعلانيّة ترويجيّة قبل حلول شهر رمضان بفترة وجيزة!!
الممثّل السوري المعروف "أيمن رِضا" الذي شارك في أحد أجزاء هذه السلسلة، قال مؤخّرًا أن سبب مشاركته في باب الحارة، كي يحظى بغطاء أكبر من الشّهرة، يعني لم يُضِف لتاريخه الفني شيئًا. "باب الحارة"، أصبح مزارًا ترفيهيًّا، يؤمّ إليه نجوم كبار، لم نسمع عنهم من قَبل، كالفنّان مَعَن عبد الحق الذي لعِب في الجزأين الأول والثّاني دور صطيف الأعمى، وكانت بدايته كممثّل جاد في المسلسل الكوميدي "بطل من هذا الزّمان"، مع النّجم الكبير أيمن زيدان، في عام 2003، أيصُا الفنان فايز قزق، ولعِب دور مأمون بيك في الجزأين الرّابع والخامس... المسرحي الكبير زيناتي قُدسيّة فلسطيني الأصل، وقد أدّى دور فِكري العميل الفرنسي، الذي تنكّر بلباس شيخ جامع، وكان أحد المُفسِدين الدّينيين في الجزء الثّامن.

لقد تألق هؤلاء النّجوم بأدائهم المميّز، وبعد أن فُتِح لهُم "باب الحارة"، انتقلوا من الشّهرة الداخليّة في سوريّا، إلى الشّهرة الأوسع على نطاق العالم العربي... وفهمنا أن "باب الحارة" غدَا مُنطَلَقًا للشّهرة التلفزيونيّة. مؤلّفو المسلسل والشركة المنتجة يتلاعبون بأحداث الأجزاء وبشخصيّاته كما يحلو لهُم، كحجارة الشّطرنج، يحيون هذا الممثل ويُميتون آخر، يُبدّلون ممثّلة ويُدخلون أخرى. هكذا خضع "باب الحارة" للأهواء التجارية للشركة المنتجة، زِد على ذلك رفض الرّقابة السّوريّة على المصنّفات الفنيّة، سيناريو الجزء الثامن من باب الحارة، فطالبت بإجراء تعديل جذري عليه.

الشركة المنتجة للمسلسل لم تعُد تتعامل مع العمل كقيمة فنيّة، من أجل الفَوز بكأس جماهيريّة العمل، هكذا تَجُر حب استطلاع الجمهور، لأجزاءٍ وأجزاءٍ بحبال دراميّة بالية، تتقطّع في منتصف المسلسل أو مع نهاية كل جزء، فرأينا أن بقيّة الأجزاء التي أُنتِجَت لغاية الجزء الثامن، لم تعتمد إلى حد كبير على الأحداث السّابقة، بل ابتدعت أحداثًا جديدة، وفي الجزء الثّامن أدخلت الشركة العنصر الدّيني، كي ترمُز من خلاله إلى ما يحدث اليوم في سوريّا، على سبيل المثال، الشّيخ سَمعو الذي أدّى دوره الفنان فادي الشّامي، يدعو أهل الحارة إلى التوبة والتّخلّف، والصّلاة يوميًّا في الجامع، كما دعَا إلى الفتنة الدّينيّة والاجتماعية، فهو يُعتبر في ذلك الحين داعشًا ولكنّه بدائيّ الأدوات والتفكير.

في إحدى حلقات الجزء الثّامن من "باب الحارة"، حدث خطأ في حدثٍ تاريخي... وذلك عندما قال عصام الذي لعِب دوره الفنان ميلاد يوسف، أنه شاهد فيلم كينج كونج الشّهير، هذا الفيلم أُنتِجت نسخته الأولى عام 1933، وما ذكره عصام صحيحًا، إنّما في تلك الفترة التاريخيّة، كانت السينما السوريّة في بداية مراحل تطورها الإنتاجي، ودور العرض في ذلك الحين، كانت تعرض إنتاجات الشركات المحليّة فقط، هذا الخطأ دليل عدم انتباه مؤلّف العمل سليمان عبد العزيز، لانهماكه بإنهاء كتابة السيناريو خلال فترة قصيرة، نتيجة ضغوطات إنتاجيّة.
دليل آخر على تسريع كتابة الحوار، عندما ذَكَرَ مُدير المخفر أبو جودَت، الذي أدى دوره القدير زهير رمضان، أمام النمس، وهو مصطفى الخاني، أن أبو حاتم مات! هذا أيضًا صحيح، لكن أبو حاتم الذي أدّى دوره وفيق الزّعيم، مات جسدًا، ولكن الشخصية ما زالت حيّة دراميًّا... خلال عمليّة التصويت للانتخابات البرلمانيّة، قال أبو جودت المرتشي للنّمس، أنه مستعد أن يزوّر له النتائج، لكن لاحقًا وجدناه يتّهمه بتزوير الانتخابات، فزجّه في السّجن!!! لكنّه أخرجه بعد ذلك، كي يبقى النّمس أحد أهم ركائز العمل.
إن غياب شخصية أبو مرزوق، لأسباب صحيّة، دفع بالمنتج إلى حذفها، وبالنتيجة اختفت معها بَسطَة الخضار والفاكهة العامرة بالخيرات، والتي قال عنها الكاتب اللبناني الكبير شُكري أنيس فاخوري، إن تكلفتها توازي إنتاج مسلسل لبناني، إذًا فهِمنا أن البَسطَة غدَت جزءًا من اللعبة الإنتاجية، لتخفيف العبء المادي عن الشركة، لتكون الأفضليّة الأخيرة للرّبح التّجاري.

العثرات الحواريّة المخجلة، وضعت هذه السلسلة في سلسلة صحفية وإعلاميّة طويلة من ردود الفعل السّاخرة لن تنتهي، لأن شركة الإنتاج جعلت من "باب الحارة"، منتوجًا تسويقيًّا مُربِحًا، أي تغاضت عن رؤيتها الدراميّة الواضحة، كعملٍ متكامل... برأيي صلاحيّة أحداثه انتهت منذ الأجزاء الأولى، هكذا تحطّم باب الحارة، كنصٍّ دراميٍّ، لكثرة الصّدمات القضائيّة، التي دارت في أروقة القضاء السّوري.

نَشهَدُ اليوم صراعًا إعلاميًّا علنيًّا بين صُنّاع الدراما العربية ومالكي الفضائيّات العربيّة، فتضطر بعض القنوات العربية لشراء أعمالهم الدرامية بأسعار خياليّة، ويفرضون عليها أن تبَثها في ساعات الذروة، فقط هكذا يوجّهون أنظار المواطن العربي نحو إنتاجاتهم، فهُم يعتبرونه أداة استهلاكيّة، ليضيع هذا المسكين موسميًّا في حارة العالم العربي الضخمة للدراما، فانضم فضول المواطن إلى فريق مسلسل "باب الحارة"، الذي بات شهبندَر التّجارة... كما لم تعُد هذه السلسلة، تحظى بنسبة مشاهدة عالية، لأن مفتاح متعة المشاهدة ضاعَ خلف باب المصلحة التجاريّة.


استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]