شكلت تصريحات رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم حول موقف بلاده من تطوير علاقات جيدة مع محيطها الإقليمي، تغيراً في السياسة التركية التي اتهمت في أكثر من مناسبة وواقعة بأنها تزيد الأعداء وتعمق من المشكلات بينها وبين جيرانها في منطقة الشرق الأوسط. حديث يلديريم عن استعادة دفء العلاقات مع كل من العراق وسورية، يعتبر في العرف السياسي تحولاً في المواقف، غير أن الأمر يتطلب قراءة أعمق في عموم السياسة التركية، خصوصاً وأن رئيس الوزراء لم يحدد بالضبط كيف يمكن عودة العلاقات مع سورية على سبيل المثال إلى مرحلة ما قبل النزاع السوري.

قبل سنوات النزاع السوري، كانت العلاقات التركية- السورية في حال جيدة، إلى أن تغير الموقف التركي بشكل جذري، وأصبح الصديق القديم عدواً لدوداً للنظام السوري الذي تأذى من السياسات التركية التي دعمت كل الوقت المعارضة السورية، وسهلت وصول المقاتلين إلى داخل الأراضي السورية.

ما الذي جعل تركيا تزن مواقفها إلى هذه الدرجة وتعلن عن تصفير مشكلاتها مع جيرانها سورية والعراق؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التأكيد في هذا المقام أن تركيا تنظر بالدرجة الأولى إلى مصالحها وإلى تنمية قوتها لفرض حضورها الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط تحديداً. لقد سعت أنقرة بعد تغير موقفها من النزاع السوري في العام 2011 إلى تأكيد فكرة رفض وجود الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة، والعمل بقوة من أجل إقواء المعارضة السورية وضمان تفوقها العسكري لتحقيق الحسم في الميدان، غير أن الوقائع على الأرض والتدخل الروسي العسكري في سورية، لم يمكن تركيا من تحقيق أهدافها هناك. حتى في موضوع إقامة منطقة أمنية عازلة في شمال سورية، لم تفلح السياسة التركية في ترجمتها وبدت أنها ضعيفة في مقابل الرفض الأميركي لفكرة وجود مثل هذه المنطقة، حتى أن موسكو بتدخلها العسكري أغلقت الباب تماماً على تركيا في هذا الموضوع.

هناك العديد من العوامل التي جعلت تركيا تفكر بمسار تحسين العلاقات مع سورية والعراق، فعدا عن كونها اصطدمت بعلاقات سيئة جداً مع موسكو، تجلت في إسقاطها قاذفة روسية بالقرب من الحدود السورية- التركية، فإنها أيضاً اكتوت بمزاجية الموقف الأميركي من سورية وغض الطرف من قبل واشنطن عن الدور الكردي في المثلث العراقي- السوري- التركي. النتيجة من إسقاط الطائرة الروسية هو قطع حبل العلاقات بين البلدين، وهذا الأمر ألحق ضرراً كبيراً في السياسة والاقتصاد التركي، أضف إلى ذلك أن أنقرة باتت تنظر إلى المعارضة السورية على أنها الطرف الأضعف في النزاع السوري، وأنها مشتتة وغير قادرة على توحيد صفوفها.

أيضاً تعاني تركيا من مشكلات داخلية تتعلق باستفحال الصراع بينها وبين حزب العمال الكردستاني الذي نقل الحرب إلى داخل العمق التركي، ولا يشمل ذلك هذا الحزب، ذلك أن "داعش" بات يضرب أيضاً ويهدد السلم والأمن التركي، خاصةً وأن الأخيرة دولة سياحية بامتياز وتتأثر كثيراً من الإرهاب. ولعل التفجيرات التي طالت اسطنبول مؤخراً، ومن ضمنها مطار أتاتورك الذي حمل بصمات "داعشية" حسب ترجيحات تركية في هذا الصدد، كل ذلك جعل القيادة التركية تفكر بشكل جدي حول ضرورة محاربة الإرهاب وتطويقه قبل أن يتوسع ويشمل الدولة التركية. لهذه الأسباب جميعها تعتقد تركيا أن تقليل الأعداء وخصوصاً الجيران في مرمى حدودها، هو أمر بالغ الأهمية، على اعتبار أنها جربت سياسات لم تحقق نتائج جيدة تحسب لها، بقدر ما صاحبها صداع مزمن أثر كثيراً على الدور التركي في المنطقة. على أن الموقف التركي لا يعني أن أنقرة ستشرع سريعاً في تطبيع العلاقات مع سورية والعراق، فقد تمكنت الآن من تحسين علاقاتها مع روسيا وإسرائيل، وتحتاج إلى المزيد من الوقت لدراسة سبل عودة العلاقات مع سورية، وكل ذلك يأتي انطلاقاً من تحقيق مصالحها الشخصية. تصريحات يلديريم حول سورية والعراق نعم هي تحول في الموقف التركي، إنما ليست بالضرورة استدارة شاملة في الموقف، ذلك أن ما رشح عن القيادة التركية يتصل بإمكانية غض الطرف عن مسألة بقاء الرئيس الأسد في السلطة خلال ستة أشهر هي عمر المرحلة الانتقالية في سورية. أكثر ما بات يقلق تركيا في الفترة الحالية هو حزب العمال الكردستاني، ولا ترغب في فتح جبهة قتالية معه كما كان حاصلاً إبان الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، فهي جد متخوفة من احتمالات وجود حزام كردي في مناطقها الجنوبية من شأنه أن يهدد وحدة سيادتها وسلامة أراضيها.

كما يجوز القول إن تركيا ربما قرأت المعادلة الدولية جيداً من حيث أن الغرب لم يعد ينادي أو يشترط بضرورة رحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة، على اعتبار أنه رأس الحربة في مواجهة التنظيمات الإرهابية مثل "داعش"، ولعل أنقرة قد تلين موقفها بشأن بقاء الأسد في السلطة لجهة السيطرة على التنظيمات الإرهابية وتطويق وجودها داخل سورية ومنع انتشارها إلى الخارج. على كل حال يمكن القول إن عودة العلاقات الروسية- التركية إلى مجراها الطبيعي في ضوء التغير في موقف الأخيرة، من شأنه أن يخدم الملف السوري، أضف إلى ذلك أن تبدل الخطاب الدولي حول الإرهاب من فكرة العمل الفردي إلى توسيع العمل الجماعي، أيضاً لعله مفيد نحو تسوية الأزمة السورية. ويبقى القول إن سورية التي كانت بعيدة جداً عن إيجاد حل ينهي الأزمة المستعصية التي تعيشها حالياً، باتت اليوم أقرب من أي وقت مضى نحو تحقيق هذا الهدف، في ضوء ملاحظة المؤشرات التي تصدر عن واشنطن وأنقرة والتي يبدو أنها ترسم ملامح تستهدف عودة المسار السياسي السوري في جنيف وتوسيع الحرب على الإرهاب، على أمل تسوية الأزمة السورية على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب". - 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]