بمبادرة مركز مساواة وأسرة طيب الذكر المرحوم الكاتب والقائد الرفيق سلمان ناطور, أقيمت امسية على شرفه وتخليدا لسيرته ومسيرته ولذكراه في مقر مركز مساواه في عروس الكرمل , مدينة حيفا, وفيها كان بودي أن يًسمح لي بالتنويه لجانب وتفاصيل هامة من سيرة وصيرورة هذا العملاق الأدبي والقائد الفذ والأنسان الأنسان, جديرة أن تًقال , لما فيها من اضاءة هامة وقوية على جانب هام من شخصية هذا الرفيق الخاص والوطني والتقدمي, بامتياز, والأهم لما لهذه التفاصيل من أهمية سياسية ووجودية , مجريات الأمور اليوم في عالمنا العربي بشكل عام تؤكد ذلك, وليتسنى لي تقديم اقتراح هام لتخليد ابي اياس, لم يأتي أحد على ذكره ممن تكلموا في هذه الأمسية أو في غيرها, وبما أن الامكانية لم تتوفر لذلك أرى واجباً علي أن أطرح في هذه المداخلة الأمران: الاضاءة على هذا الجانب من شخص سلمان والاقتراح لتخليده .

عندما اندلعت انتفاضة شعبنا الفلسطيني عام 1978 , وكانت الشرارة التي فجرت بركان الغضب المتراكم هذا ضد الاحتلال وجرائمه هي مقتل ال- 11 عامل من مخيم جباليا على أيدي جنود الاحتلال المجرمين, وتعقيبا على هذه الجريمة اجرت احدى الاذاعات الصهيونية لقاء اذاعي مع يتسحاق نافون – رئيس الدولة في حينه ( عراقي الأصل), وفيها وعندما طلبوا تعقيبه أجاب بما معناه أن منفذي هذه الجريمة هم جنود "دروز برابرة", أمر يتنافى مع الحقيقة . إلا أن هذه الفرية الكبيرة من هذا المسؤول الكبير لم تكن زلة لسان, وإنما هي جزء من سياسة مبرمجة رسمية هادفة , مبنية وخبيثة, مما جعل هذه الى اساس لنهج الاحتلال الهادف الى تحويل النقمة المشروعة على الاحتلال لعنوان عربي, وبالتالي مسح كل الجرائم الاحتلالية في هذه الانتفاضة المباركة والباسلة بهذا العنوان, على هذا المنوال الاحتلالي المًشوّه والمًشوِّه. وللحقيقة فان هذه الممارسة والذهنية الاحتلالية البائسة وقعت على آذان صاغية وقلوب مفتوحة وكان لها تربة خصبة لدى شرائح كبيرة في اوساط أبناء شعبنا الفلسطيني الرازح منه بالذات وحتى النازح منه, لدرجة مقلقة , رغم النشاط المستميت الذي قامت به لجنة المبادرة العربية الدرزية وامتداداتها , كالحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وكل الهيئات الوطنية من الداخل والقوى الوطنية والاسلامية في المناطق المحتلة في القطاع والضفة, محاولين عدم الوقوع في المطب ومنع هذا التشويه والتزوير, ومن منطلق المصلحة الوطنية بحساباتها الواسعة التي تشير بوضوح أن هذه الذهنية تفيد الاحتلال وتغطي عليه كونه المجرم الحقيقي. وفي هذه الحالة العسيرة وظروفها القاسية , ولتدارك هذا الأمر الجلل بالممكن والأفيد عمله , وبمبادرته, اتصل بنا في حينه المرحوم طيب الذكر الدكتور حيدر عبدالشافي, والذي كانت تربطنا به علاقة وثيقة ومتينة, واقترح علينا أن ننظم حملة للتبرع بالدم لجرحى الانتفاضة المباركة, في مستشفى المقاصد في القدس الشريف, وحتى لو اقتصر الأمر على حضور بعض الأشخاص, لأن القيادة الوطنية الواعية والمسؤولة عرفت مدى الضرر والخطورة والاسقاطات لذهنية فرق تسد هذه, وخاصة في ظروف الانتفاضة, والتي لا قدرة لهذه القيادة إثنائها على التصدي لهذه الذهنية أو لتغيير هذا الواقع المَشوّه وكما تقتضي الضرورة, كما ولنا في لجنة المبادرة غير متوفرة الطاقات المطلوبة لمحو هذه الذهنية أو تقليصها بالحجم المطلوب على الأقل. قبلنا الفكرة بحماس والمرحوم ابي اياس سلمان ناطور تكفل بتنظيم الأمور في القدس, خاصة المؤتمر الصحفي والتغطية الاعلامية المطلوبة والضرورية لتحقيق الهدف. وكان التجاوب لدى قوانا مع الفكرة في حينه منقطع النظير, نظمنا وفد كبير من الرجال والنساء والشبيبة تجاوز عددهم ال- 70 شخص وتوجهنا للقدس الشريف بواسطة حافلة ركاب وبعض السيارات الخاصة, إلا أنه لم يخطر لا على بالنا في حينه ولا على بال القوى الوطنية في القدس الشريف, بأن سلطة الاحتلال وعملائها المحليين, حضّروا لنا استقبال غير شِكِل.., حيث كانت المفاجأة لنا أنه عندما اقتربنا من مدخل المستشفى وإلا بمئات الناس تستقبلنا بالمسبات والشتائم والتهديد , مستعملين عبارات جارحة مثل "يا عملاء", "يا خون", "ما بكفي عملاتكم" وغيرها من التفاهات المدهشة حقاً . مع بداية هذه المسرحية المبنية, وللوهلة الأولى كان طابع المفاجأة الغالب على ردة فعلنا إلى أن تداركنا الأمر على السريع , لأن وجوه هؤلاء "المستقبلين" كانت غير مألوفة لنا البتة, خاصة أن نشاطنا لدى القوى الوطنية, بكل أطيافها , ولدعم الانتفاضة, كان مشهود له وبه, والاساءات التي قذفوها علينا كانت غير موزونة ولا تركب لنا على عقل, يعني ما خرطت في دماغنا, وهي شبيهة ومكملة لكلام وموقف يتسحاق نافون تماما.., على الحارك ردينا على هذا الهجوم بهجوم معاكس.. وللحقيقة أنه لا ينقصنا ذخيرة وطنية أبدا, ومن الصيحة الناتجة عن هذا التصادم غير المحسوب وغير المألوف وعلوّ الأصوات جاءونا الرفاق المناضلين الذين كانوا في انتظارنا داخل المستشفى, وبقدرة قادر وخلال لحظات اختفوا هؤلاء العملاء, ولم تنجح خطة الاحتلال في اجهاض هذا المشروع الوطني. بالفعل قمنا النساء والرجال والشبيبة من وفد لجنة المبادرة بتقديم وجبات من دمنا لجرحى الانتفاضة, مع تغطية اعلامية وكل ما خًطِط له. بعدها انتقلنا لقاعة فيها عًقِد المؤتمر الصحفي الذي تم الاتفاق على عقده. هنا كانت لنا ايضا مفاجأة , لكنها من نوع آخر ومن عيار أثقل ولها طابعان: انساني ووطني عميقين. قاد هذا المؤتمر الصحفي طيب الذكر سلمان ناطور وشاركاه رئيس اللجنة في حينه الشيخ جمال معدي ورفيقنا الشاعر نايف سليم, والمؤتمر الصحفي بالنسبة لهذا النشاط هو لبه وذروته, لأن أهلنا المقدسيين الفلسطينيين لا تنقصهم القدرة أو الارادة والاستعداد لتوفير الدماء لجرحى الانتفاضة, لذلك من الناحية الميدانية لم تكن حاجة لحملة تبرعنا بالدم هذه, لكن واجب الرد على فرية الاحتلال وممارسته الخبيثة والمُضرة بتحميله " الجنود الدروز" ولكونهم فلسطينيون جرائم الاحتلال( على طريقة من ذيله اعملو شباق, أو من ذيلو اعصبلو عينو) هو المطلوب. وخلال المؤتمر الصحفي لا بل قبل بدايته تواجد في القاعة حاج مًسِن بدين الجسم يتكأ على عكاز, وعند معرفته هويتنا المذهبية, بدأ يضرب الارض بعصاه وبشدة وعصبية , وكان له صوت جهوري وعالي , وأخذ يصيح " يا عمي ضًبوا كلابكو.." وعبارات مرادفة ولها نفس المعنى, الأمر الذي لفت انتباه كل الحضور , خاصة وسائل الاعلام المتواجدة في القاعة. على ضوء تجارب لنا سابقة لها طابع مماثل , أوقفنا سير المؤتمر الصحفي ولطفنا بخاطر الحاج, وطلبنا منه توضيح فكرته, وهنا ايضا قاد هذا الموقف ذات الطابع الخاص طيب الذِكِر سلمان ناطور, ومن حديث الحاج اتضح انه أب لشهيد وفي نفس الوقت كان له ابن آخر راقد في مستشفى المقاصد , اثرى اصابة بعيار ناري في رأسه من جنود الاحتلال وعلى وشك أن يستشهد.., ومما قاله الحاج : " نعم هذه هي حالي واقسم بالله ورغم الألم أني راضي بما قًسِمَ لي وعن قناعة, إلا أن الذي ليس عندي القدرة على تحمله ما جرى في قريتنا ..( قرية لا اذكر اسمها إلا أتها قريبة من مدينة بيت لحم الأبية) " وتابع الحاج قائلاً : " كانت في قريتنا مظاهرة ضد الاحتلال وأصيب فيها أحد الشباب بعد أن أطلق عليه الجنود النار بالذخيرة الحية, أصيب في بطنه, وجراء ذلك انفرشت حِشاه على الشارع, فما كان من أحد الجنود إلا أن أخذ بندقيته ورفعها في يده فوق رأسه وبدأ هذا الجندي المشبوه والمستهجنة تصرفاته, حتى في نظر الحاج وكما ذكرها أمامنا, يلوح بها ويصيح : " احنا دروز نحب الموت , الموت براس الباروده", مرفقا لهذا القول المًستهجن فِعلة بربرية وحشية ومقرفة , حيث قام بالدوس ببسطاره العسكري على حِشى الشاب الجريح المفروشة على الطريق ..", وعندها صاح الحاج بمرارة وغضب : " شو بدكو اقولكو .. نعم ضَبوا كلابكو..". ابي اياس سلمان بالأساس وباقي الحضور أخذنا نشرح للحاج الشهم هذا أن هذا الجندي لا يمكن أن يكون درزي.., وحتى اذا كان كذلك فهو في كل الحالات جندي احتلال وينفذ سياسة وأوامر الاحتلال, لذلك من غير المفيد ولا يخدم القضية الوطنية اعتباره درزي فقط وإنما جندي احتلالي لا غير. اقتنع الحاج , خاصة بعد أن شرحنا له سبب وجودنا, فما كان منه الا ان زاد تأثراً وعاطفة والحكي مش مثل الشوف.

هذه الحادثة تختزل في فحواها حالة فلسطينية أو جانب من قضية شعبنا وتفصيل من تفاصيله أصبح الآن وكأنه هامشي أمام التطورات الأخيرة التي فيها السعودية ودول الخليج والكثير الكثير من النظام الرسمي العربي مُجند بالكامل لدعم الصهيونية بشكل عام, والحكومة الاسرائيلية اليمينية المتطرفة الحالية بشكل خاص, مما يجعل هذا التفصيل بالمقارنة لا قيمة ولا مجال للانتباه له..!!.ولكن التجربة النضالية تقول وبكل قوة أنه يجب أن تتحول هذه التفاصيل والتي جرت في موازين قوة مختلة الى آلية لمقارعة الفتن المبنية وسياسة فرق تسد, ولنجعلها نور ومنارة لتضيء بقوة على القوى الفاعلة لتكريس هذه السياسة ولتشير الى الوعي والرفض لها من أطياف شعبنا الفلسطيني. هذا الحدث والحديث يربط لنا هذه الأمسية لتخليد ذكرى أحد رموز وقادة لجنة المبادرة العربية الدرزية البارزين, وغيرها من الأطر الوطنية والتقدمية الى تدوين هذه الواقعة المؤثرة, لنقول أنه هو طيب الذكر سلمان ناطور ممن قارع الفتن وأصحابها وعمل كل شيء للذود عن الوطن والمواطن الفلسطيني ولتسيير اموره ليس بالمشقلب وكما تريد الصهيونية وربيبتها الاستعمارية وحلفائها الرجعيين العرب. وللتطمين ولإكمال باقي تفاصيل الحادثة قمنا في لجنة المبادرة بواجب الملاحقة لمعرفة حقيقة تفاصيل هذه الجريمة النكراء, وكما قدرنا, اتضح لنا وبالدليل القاطع أن الفاعل هو شرطي حرس حدود صهيوني يمني, عرفنا كامل تفاصيله ونقلناها لمن يهمه الأمر , أولاً دفاعا عن الحقيقة وأيضاً عن الحق والمصلحة الوطنية.

من هنا اوجه نداء حار لكل من له صلة مع ما يجب عمله لتخليد ذكرى ونتاج وسيرة المرحوم الرفيق ابي اياس, بأن يسعوا لبناء مقر على اسمه في بلده دالية الكرمل , لأن هذا المشروع بالذات هو الضمانة الأكبر والأفيد لتخليد هذا الراحل الباقي الكريم والجدير جداً جداً بتخليد خاص جدا جدا.

ليبقى شعبنا قادر على ضرب الفتن وتماسك وحدته النضالية والوطنية ولتبقى ذكرى ابي اياس سلمان ناطور خالدة.

( كانب المقال رئيس لجنة المبادرة العربية الدرزية) 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]