امس، كانت ذكرى استشهاد غسان كنفاني. ففي 8 تموز 1972 نفذت القوات الخاصة لدولة الاحتلال الصهيوني جريمة اغتياله في منزله في ضاحية مار تقلا من منطقة الحازمية في بيروت بتفجير عبوة ناسفة في سيارته. واغتالت معه بنت أخته لميس التي كانت ترافقه بنفس السيارة. نحن الآن على بعد 44 سنة من جريمة الاغتيال، ومع ذلك فلا يزال غسان يمتلك حضورا أقوى بكثير من جل الناس العاديين، وهذا أمر طبيعي وعادي. ولكن لماذا لا يزال غسان يمتلك حضورا أقوى من الكثير الكثير من شخوص وأسماء تتصدر المشهد الفلسطيني بالدرجة الأولى والعربي الى حد ما؟ هل يكون الجواب في الموروث الأدبي عظيم الغنى والاتساع الذي خلّفه خلال عمره القصير (36 عاما).
أم في الاندماج التام والتماهي الكامل بين شخوص الأديب والروائي المبدع والمفكر والإعلامي والصحافي اللامع فيه مع شخصية المناضل الملتزم التي لازمته طوال سني حياته؟ لقد أخذت شخوصه المذكورة حقها الى حد معقول من الإضاءة والبحث والاستقصاء والدراسة. جاء ذلك على شكل كتب كثيرة الفت او أبحاث اكثر أنجزت او رسائل ماجستير ودكتوراه جامعية قدمت او مقالات كثيرة نشرت.
وما زال الباب مفتوحا على سعته للمزيد. لكن شخصية المناضل الملتزم في غسان لا تزال لم تأخذ حقها المطلوب من الإضاءة والتعريف، خصوصا وأنها لعبت دورا أساسيا ومهما جدا في بلورة الشخوص المذكورة وتأصلها وغناها. هل كان يمكن ان يأتي إبداع غسان الأدبي والثقافي والإعلامي بالقيمة والشكل الذي خرج بها دون انتمائه الوطني العميق وصولا الى الانتماء التنظيمي والفعل النضالي المباشر؟ وهل كان يمكن رؤية إبداع مبدعين آخرين من وزن اميل حبيبي ودرويش والقاسم وزيّاد و.... غيرهم بمعزل عن ذلك الانتماء أيضا؟. هل كان كل هؤلاء سيحظون بنفس القدر من الاهتمام والانتشار والشهرة، لو لم يكن الانتماء الوطني العميق مكونا أساسيا في ذواتهم وشخوصهم كما في إبداعهم؟ وهل كان غسان بالذات، سيحظى بهذه المرتبة العليا المتميزة والمستمرة لو لم تلاحقه الى بيته في بيروت وتنسف جسده القوات الخاصة لدولة الاحتلال؟ القول ان نسف جسده كان قتلا لإبداعه ولوقف تأثيره الكبير خصوصا وانه ما يزال شابا وعمره كان ما يزال أمامه مبشرا بإبداع كثير يقلق المحتل، هو قول صائب تماما. لكن الاكتفاء بذلك فيه تبهيت للمكون الأساسي الثاني في شخصية غسان، مكون المناضل الوطني الملتزم والمنتظم في نفس الوقت.
بصرف النظر عن الموقع او المواقع التنظيمية التي شغلها غسان، فإن المقربين منه والعارفين بأخباره يجمعون على ان دوره التنظيمي وإسهامه كان اكبر بكثير من ان يربط بموقع او مجال معين، او يتحدد بمرتبة تنظيمية. وهؤلاء يجمعون انه كانت تربطه بالدكتور جورج حبش علاقات تقدير واحترام عالية مميزة وخاصة، وعلاقات إنسانية أيضا.
وان الدكتور حبش كان يعرف جيدا قيمة غسان وقدراته، ويعرف ما يقوم به من مهمات، وأعمال وكان يعتمد عليه في صياغة وثائق وبرامج ودراسات أساسية ومخاطبات نوعية مع أطراف معينة او في مناسبات خاصة. كما كانت تربط غسان علاقات حميمة عملية وشخصية مع عدد من قيادات الموقع الأول ومئات من الكادرات في تنظيمه إضافة الى علاقات التقدير الواسعة من قبل كل القوى السياسية، والتنظيمية. ويجمعون أنه كان يقوم بمهماته المباشرة على تعددها بتفان واقتدار ومبادرة، ويقوم بأي مهمة تطلب منه بلا تردد وانه كان يبدع ويبتكر ويوسع كثيرا في افق المبادرة الخلاقة مع اي عمل يتقاطع، او حتى يقترب من مهماته ومسؤولياته المباشرة.
ان عدم أخذ شخصية المناضل الملتزم في غسان حقها الطبيعي من الاهتمام والإضاءة يحصل في سياق حالة عامة تشمل مرحلة الثورة المسلحة، بكل أبعادها وجوانبها، تتجاهل التعريف بها، بما لها من إنجازات وما فيها من بطولات، وهي المظهر العام بالتأكيد، وما عليها من إخفاقات وأخطاء. في سياق هذه الحالة العامة يتم التعتيم على إنجازات وطنية ونضالية مهمة تحققت، كما يتم التهرب من تقييم موضوعي منصف لإخفاقات حصلت وأخطاء وقعت. وفي سياق هذه الحالة العامة يجري التعتيم على مبدعين من وزن كمال ناصر وماجد أبو شرار وغيرهم الكثيرين، والتعتيم على هامات عالية جدا قامت بأعمال بطولية كبيرة في ساحات النضال المختلفة، منهم من استشهد ومنهم من ينتظر.
البعض يعيد أسباب حالة السياق العام الموصوفة الى التقصير والإهمال، والبعض الآخر يعيدها الى عدم الوفاء، وآخرون يعيدونها الى أسباب أخرى. لكن لا يمكن إنكار حقيقة ان هناك بعض يتعمدها ويتقصدها بوعي وبتخطيط، وبخلفية فكرية وتنظيمية ضيقة الأفق. ويعبر هذا البعض، مباشرة او مداورة، عن عدم الاقتناع بتلك المرحلة كلها ولا بأهميتها ودورها بالوصل مع المراحل التي سبقتها والتمهيد للمرحلة التي تليها. وهو ينكر لها أي إنجاز ولا يرى فيها إلا الإخفاقات والسلبيات، ولا يقتنع بالمؤسسات والهياكل التي أقامتها ولا يقبل الانضواء فيها. وكأنّ النضال الوطني الحالي لم يبدأ إلا يوم بدأ هو متأخرا، وان الإنجازات وكرامات النضال والمقاومة والاستشهاد والاعتقال لم تبدأ إلا معه. أليس من حق غسان، وغيره من المبدعين، ان تأخذ شخصية المناضل الملتزم فيه حقها من التعريف والإضاءة؟
نقلا عن الايام
[email protected]
أضف تعليق